بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 27 أغسطس 2015

«صمت مقلق» لأندريه برنك: جذور التمييز العنصري

تتنهّد السيدة العجوز وتقول: «هنيئاً للشعوب التي لا يتحدث عنها أحد في نشرات الأخبار». وفي أيامنا هذه، ثمة شعب لم تعد الأخبار السياسية تقترب منه كثيراً، لكنه كان طوال النصف الثاني من القرن العشرين، مدار كل الأحاديث وصانع الأخبار، سلباً وإيجاباً، هذا الشعب هو شعب جنوب أفريقيا، الدولة التي نقلتها حكمة رجل أسود، وتواطؤ رجل أبيض، من عالم يضجّ بالخلافات والصراعات، الى بلد يحاول على رغم
كل مشكلاته العويصة، أن يشقّ طريقه الى المستقبل. والحال، أن المرء حين يتحدث عن جنوب أفريقيا، تتماثل الى ذهنه على الفور أسماء مثل مانديلا ودي كليرك، وكلمات مثل عنف وتمييز عنصري وفعل ورد فعل، وما الى ذلك. لكنْ، ثمة أمور أخرى تتماثل الى الذهن أيضاً، وأهمها نوعية وعدد الكتّاب البيض الذين وقفوا دائماً وقفات مشرّفة الى جانب العدل والحق، مندِّدين بظلم الإنسان الأبيض لأخيه الأسود.
> نعرف أن مثل هؤلاء الكتّاب كانوا هم من مهّد دروب الرأي العام العالمي لمسيرة مانديلا بعد ذلك، كاشفين ما سمّوه «فضيحة التمييز العنصري الكئيب» في تلك المنطقة من العالم، بوصفه جريمة حقيقية ضد الإنسانية. ومن بين هؤلاء الكتّاب ذوي الضمائر الحيّة، دوريس ليسنغ ونادين غورديمير وبرايتن برايتنباخ وغوتزي. ومن بينهم أيضاً على وجه الخصوص، أندريه برنك الذي قد لا يكون أشهر المجموعة، لكنه بكل تأكيد كان الأكثر تنديداً بالظلم والقمع، في كتاباته الروائية، وأيضاً في كتاباته السياسية ومواقفه ونضالاته اليومية. وبرنك كان على أي حال، ومنذ البداية، واحداً من أصحاب المواقف الأعنف ضد العنصرية والتمييز العنصري. ومن بين روايات برنك الكثيرة، يمكن هنا التوقّف عند روايته «صمت مقلق» التي صدرت في العام 1982، أي قبل سنوات قليلة من الإعلان الرسمي لانتصار مسيرة مانديلا العادلة التحرّرية. ومن هنا اعتُبرت هذه الرواية أشبه بصيحة تحذير أخيرة، استجاب لها القدر.
> مهما يكن من أمر، فإن «صمت مقلق» يصعب اعتبارها رواية في المعنى الأكاديمي للكلمة. هي أشبه بمرافعات داخل محكمة، تقال على ألسنة أشخاص متنوّعين، يبدو بعضهم وكأنه مجموعة من المحلّفين، فيما يبدو البعض الآخر وكأنه يلعب أدوار الشهود... لكنهم جميعاً في نهاية الأمر، يبدون متورّطين في الأحداث، خصوصاً أنهم جميعاً يروون الحدث نفسه، وكل واحد منهم يرويه على طريقته كما الحال، مثلاً، في فيلم «راشومون» لكوروساوا، أو في رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ أو «إسمي أحمر» لأورهان باموق. والآن ما هو هذا الحدث؟
> إنه أمر يعود الى أواسط القرن التاسع عشر، ويتعلّق بما حدث حقاً في ذلك الحين. ففي العام 1842، قامت مجموعة من العبيد السود بثورة هاجمت خلالها أسيادها من البيض «الأفريكانير» من ملاك الأراضي - ذوي الأصول الهولندية غالباً -. وكان دافع الثورة يأس العبيد من تطبيق ما كان الاحتلال الإنكليزي قد وعدهم به قبل ذلك من إزالة العبودية قانونياً. كان الوعد قد أسبغ منذ زمن... لكن السنوات مضت ولم يفِ به أحد. وهكذا فرغ صبر السود وانتفضوا. هذا هو إذاً، الإطار التاريخي الذي تدور الشهادات والمواقف والحكايات من حوله. أما السياق فيتصاعد انطلاقاً من مشاهد أولى تدور في المناطق الريفية، حيث يبدو واضحاً وبالتدريج أن التوتر بدأ يتصاعد من دون هوادة. والسكان هنا يراقبون ما يحدث وما يتصاعد، ولكل منهم وجهة نظره في ما يحدث وفي ما يمكن أن يحدث. أما التركيز فمن حول عدد قليل من الشخصيات. فهناك أولاً، الشقيقان الأبيضان نيكولا وبارند، إنهما من أبناء طبقة السادة، لكنهما مرتبطان عاطفياً برفيقهما الفتى الأسود غالنت، الذي يماثلهما في العمر. والثلاثة كانوا منذ الصغر على أي حال، أخوة رضاعة. نموا معاً وكبروا معاً، وبدا أن ليس في إمكان شيء أن يفرّقهم، ولكن من دون أن ينسى أيّ منهم في اللحظات الحرجة أن ثمة سيّدين وعبداً هنا. فغالنت الأسود عبد، لأنه أسود... ولا أحد في المكان يتيح له أصلاً أن ينسى ذلك، وإن كنا نلاحظ دائماً أنه يحظى بمعاملة طيّبة. والى جانب تلك الشخصيات الذكورية، هناك شخصيات أنثوية مثل العجوز «ماما روز»، والبيضاء المتمرّدة أستر. ومن الطبيعي أن تكون لكل واحدة من هذه الشخصيات مواقفها ووجهات نظرها المختلفة عما لدى الآخرين في صدد ما يراه الجميع ويعيشه... وهي أمور تظهر الى العلن ما إن يحدث أقلّ خلل في السياق اليومي. والحقيقة، أن هذا كلّه يبدو كافياً كي يقول لنا كم أن الوضع برمته كان هشاً وينذر بالعواصف المقبلة. والوصف الذي يورده برنك للحياة اليومية، يبدو منذ البداية وصفاً حاذقاً يرسم الفوارق في الذهنيات والسلوكيات بين البيض والسود، بين السادة والعبيد، بل كذلك بين الرجال والنساء. ولعلّ في إمكاننا أن نعطي مثالاً على تلك الفوارق من خلال عبارة تطلقها ذات لحظة، أستر التي صارت في تلك الأثناء زوجة لباراند، حيث تقول: «أنتم لا يمكنكم أن تقلقوا من تحرير عبد من العبيد إلا إذا كنتم تنظرون إليه على أنه كائن بشري. وإلا كيف كان يمكن الرجال أن يفكروا بالعبيد على هذه الشاكلة، هم الذين لم يقيّض لهم بعد أن يكتشفوا حتى الآن أن النساء أنفسهن كائنات بشرية؟».
> الواقع، كما يصفه لنا أندريه برنك في هذه الرواية المدهشة، هو أن ليس ثمة في البداية ما هو شرير أو جديد ذو خلفية في أي من هذه المواقف، «ذلك أن تميّز الإنسان الأبيض على الإنسان الأسود، أمر يتعلّمه الأبيضان نيكولا وباراند منذ نعومة أظفارهما. كان يكفيهما أن يقرآ صفحات الكتاب المقدس ليتأكدا من هذه الحقيقة. أو بالأحرى، كان يكفيهما أن ينصتا الى أبيهما وهو يقرأ لهما الكتاب المقدس ويفسره على طريقته حتى يسلّما بذلك التميّز». فإن كان الأمر كذلك، هل من الممكن أن يعاقب غالانت بغير الجلد بالسوط، حين يحتجّ على وضعيّته... أو تصل به الوقاحة الى أن يرغب ذات يوم في أن يحصل على حذاء يشبه أحذية سادته؟
> تلكم هي الوضعية التي يتحدث عنها أندريه برنك في هذه الرواية. والمميّز هنا، هو الأسلوب الذي يأتي في كل لحظة ليتبنى وجهة نظر كل شخصية من الشخصيات، عارضاً حججها، قبل أن ينتقل الى مستوى آخر من الحديث، مناقض تماماً للمستوى الأول. إن هذا العرض، الذي يبدو محايداً للوهلة الأولى، هو الذي يحمل كل قوة نص الكاتب هذا، الكاتب الذي يعتمد ليس على فكرة أن يكتشف قارئه الحقيقة من خلال قراءته، بل أن يمعن في التواطؤ معه، ضد الظلم والتمييز ما أن يكتشف سرّ لعبته الحاذقة. ذلك أن ما يريد أندريه برنك أن يصل إليه، من خلال لعبته هذه، هو أن يبرهن على أن البيض المتخلّفين لم يفهموا شيئاً مما يحدث، ولا يريدون أن تعلّمهم التطورات أي شيء. ومن هنا، نراهم يعيشون وسط خوف دائم من أمور ما كان لها، أول الأمر، أن تخيفهم، لكنها لفرط ما يتحسبون منها، تأتي لتخيفهم في نهاية الأمر. ويؤكد برنك في سياق روايته - التي كتبت قبل أن تزول العنصرية في جنوب أفريقيا - أن أولئك البيض سيدفعون الثمن غالياً، هم الذين اخترعوا أسباب خوفهم وصاروا ضحيّتها. كما سيدفع الثمن أنصار التمييز العنصري، حتى وإن كان القمع لا يزال في ذلك الحين قادراً على أن يدّعي امتلاك الكلمة الأخيرة.
> أندريه برنك، المولود في العام 1935، والذي رحل في شباط (فبراير) من هذا العام، ناضل ضد التمييز العنصري منذ سنوات مراهقته، ثم حوّل نضاله الى نضال بالكتابة والأدب خدمته فيهما لغة جزلة وخيال واسع ورغبة في ألا تفقد الرسالةُ السياسية أدبَه قدرته على إمتاع القارئ. ومن أشهر ما كتب برنك «في أكثر ظلام الليل ظلاماً»، و «جدار الطاعون» الرواية التي يصوِّر فيها عبور الطاعون التاريخ من أيام ظهوره في القرون الوسطى، حتى زمن تحوّله الى تمييز عنصري في زمننا الراهن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق