بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 31 أغسطس 2015

◘ في موضع النّديّة مع الغرب

تُعدّ فكرة النّظر في جاذبيّة الفنون الإفريقيّة، إذا ما قبلنا بالاصطلاح في حيّز المعالجة الثّقافيّة أو السوسيوثقافيّة والجماليّة الحديثة والمعاصرة، فكرة إيجابيّة قادرة على رفع النّظرة الانبهاريّة ذات الأصول الاستشراقيّة أو الوله بالغرائبي والعجائبي، الّذي مضى فيه العالم الغربي في تعامله مع المنتجات
القادمة من جنوب المتوسّط ومن عمق السّاحل الصّحراوي ومن عمق إفريقيا وآسيا. فالمسألة تندرج- حسب اعتقادنا- في ردّ الاعتبار لهذه الثّقافات القادمة من خارج الحداثة وما أسقطته على الآخر من رؤى مُتداخلة بين الإيجابي ذي الموضوعيّة الأصيلة والسّلبي ذي الشّوفينيّة المتسلّطة. ومهما يكن من تقييم لمؤثّرات هذه الفنون على الفنون الغربيّة في أَوْجِ صراعاتها الدّافعة إلى ابتداع أساليب حداثيّة وبعد حداثيّة مهمّة للغاية، فإنّه علينا الإقرار بأن الفنون الإفريقيّة من تشبيهيّة تشخيصيّة ومن رمزيّة تجريديّة كانت دليلاً إلى تغيير وجه اللّوحة والمنحوتة الغربيّة وإلى دفع التّصوّرات المعاصرة من فنون البودي أرت والتّنصيب والبرفورمونس إلى اكتشافات جديدة وأوجه من الجدّة على نحو غير مسبوق. كما علينا أن نوضّح أنّ الفنون الإفريقيّة المعاصرة أضحت رافداً مهمّاً من روافد الحِراك الفنّي العالمي المعاصر انطلاقاً من خصوصيّاته المحليّة ومن قدرات الفنّانين الأفارقة على إحداث الفارق النّوعي في التّشكيل المعاصر اعتماداً على الموروث والبيئة المحلّيين، حتى صار دلالة على أنّ المحلّي طريق نحو العالمي.

الأصول في الرّواج


تتواتر الحكايات عن الفنّ الإفريقي وعن تأثيره في الفنون الأوروبيّة الحديثة والمعاصرة، بمثل ما تتواتر روايات وتفاسير أخرى عن تأثير الفنون العربيّة الإسلاميّة في الفنون الغربيّة والعالميّة. لكن، بين الواقع والخيال، وبين حقيقة جاذبيّة الفنون الإفريقيّة وأهميّة أبعادها الإثنوغرافيّة والثّقافيّة وارتباطها بنمط العيش الإفريقي في عمق نقائه وابتعاده عن مؤثّرات الحداثة الغربيّة ذات المنحى الاستهلاكي الّذي يوظّف جميع طاقات الشّعوب لفائدته في ظِلّ هيمنة العالم الغربي وتوحيده للأنماط الحضاريّة والثّقافيّة، بون شاسع. إنّ الفنون الإفريقيّة كباقي الأنشطة الفنّيّة الّتي أطلق عليها مصطلح فنون من طرف الأنثروبولوجييّن والمؤرّخين الغربيين، رغم ما تختلف به في عمقها عن المفهوم الغربي للفنون وبخاصّة الفنون التّشكيليّة، تختلف عن كلّ ما يمكن أن ينضوي تحت طائلة الفنّ على أساس أنّه رؤية مخصوصة للعالم. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتعامل فكريّاً ولا سوسيوبوجيّاً مع المنتجات الإفريقيّة من المصنّف فنوناً بالمنظور الغربيّ الّذي نحت في السّوق الفنّية المعاصرة اصطلاح الفنون اللّاغربيّة والّتي أصبحت مجالاً كبيراً للمعاملات الماليّة في تجارة الرأسمال الرّمزي في العالم. وقبل أن نتفحّص أعمال التّعبيرييّن الألمان في تعاملهم مع الأقنعة الإفريقيّة وتعامل بيكاسّو مع ذات الأقنعة أو القطع الإفريقيّة المنحوتة على الخشب خاصّة وبقيّة المواد الطبيعيّة المتعارف عليها، علينا أن ننظر إلى واقعها في أطرها الثّقافيّة والسوسيولوجيّة الّتي تمّ إنتاجها فيها. واقع أطلق عليه الغرب النّمط البدائي أو- بالأحرى- الخام والسّاذج وغيرها من مناظير الاستنقاص والرؤية الدّونيّة.
لقد استبق الأفارقة الأوروبيين في تناول العلامات المجرّدة المخطوطة والمرسومة والموشومة على المحامل العديدة المتوافرة في البيئة الإفريقيّة، وليس من الغريب أن تكون الثّقافة الأمازيغيّة من الثّقافات القليلة في العالم الّتي خلقت لإرثها التّصويري مدوّنة من الرّموز والأشكال التّجريديّة الرّائعة الّتي أضحت بمثابة الحصن المتين لتعبيرة عديد من الفنّانين المعاصرين في العالم العربي من بلاد المغرب، على غرار أحمد الشّرقاوي، ومحمد خدّة، وفريد بلكاهية. وهو ما ينسحب على عديد التّعبيرات التّشكيليّة لفنّانين سودانيين أو مصريين من جنوب مصر، أولئك الّذين استثمروا الهيئات البشريّة الطويلة والمنمذجة والمؤسلبة وفق ما توافر لهم في إرثهم الإفريقي، متقاطعين في ذلك مع فنّاني التّعبيريّة الألمانيّة، أمثال كيرشنر أحد أبرز فنّاني جماعة الجسر الموازية لجماعة الفارس الأزرق في بدايات القرن العشرين، والمتزامنة مع تعبيرات هنري ماتيس، وبيكاسو في باريس.
لقد عمّت موجة التأثّر بسحر التّعبير الفنّي الإفريقي (ليس إفريقيا السّوداء فقط)، بحضارة الفراعنة وثقافة البربر وعروبة شمال إفريقيا وبلدان السّاحل الجنوبي، كموريتانيا وساحل العاج ومالي والسينغال وغيرها من البلدان المستعمرة من طرف الغرب، إلى حدّ أصبحت فيه هذه التّعبيرات الفنيّة نماذج ومنطلقات لأساليب جماليّة تدخل تحويرات على تمثّل النّموذج البشري من صور وهيئات. والنّماذج في ذلك كثيرة كأعمال موديغلياني أو سابقه فان غوخ وغيرهما من الفنّانين الّذين وجدوا ضالّتهم في هذا البعد المنعوت بالبدائي أو بالسّاذج أو- بالأخصّ- بالعفويّة لأنّهم أرادوا الاحتماء من سلطة النّموذج الانطباعي الّذي بدأ يفقد بريقه مع منعطف بدايات القرن العشرين ومن تكريس الحداثة للهيمنة على الذّاتي والفردي. وألهمت هذه الفنون عديد الفنّانين الأوروبيّين والأميركيين- لاحقاً- أسس تعبير تشكيلي مُتحرّر من النّموذج الأكاديمي المكرّس مؤسّساتيّاً والمنصوص عليه في السّوق الأوروبيّة والأميركيّة الجديدة. لذلك يمكن أن نسمّيها فتنة الآخر في عيون الغرب، ويمكن أن نفسّر نموّ عدد جامعي القطع الفنيّة والمتحفيين والتّجار في الفنون ذات الأصول الإفريقيّة بالمضاربين الجدد في مجال التّجارة في المنتوج الرمزي للشّعوب.
المحلّيّة عنوان التّميّز
تتميّز منتجات الفنون الإفريقيّة بقيم جماليّة تتجاوز سقف المعتاد والمتداول ضمن الأحيزة الغربيّة والحداثيّة للفنون، فهي لا تنضبط بمعياريّة الغرب ولا لأساليبه الكلاسيكيّة ولا تعرف للمنظور وقواعده سبيلاً، بما أنّها كانت نتيجة لتفاعل الحياتي بالمقدّس والطّقوسي وبالعادات والمعتقدات لهذه الشّعوب في بساطة عميقة المعنى وقويّة المغزى، كما تتميّز بحضور كثيف لعديد الخامات المحليّة الّتي لها جماليّتها الماديّة الثّريّة بالألوان والغرافيزمات المثيرة للعين والّتي تحرّك في النّاظر إليها أحاسيس جماليّة ولذّة بصريّة ممتعة. وهذا ما يتوافق- وبشكل كبير- مع التّوجّهات الطلائعيّة في مستوى التّجريد التّشكيلي الّذي يعتمد على القراءة الشّكلانيّة للآثار- قاطعاً وبصفة كلّية- مع المعنى أو التّاريخ أو المرجعيّة الفكريّة للأثر ولمنتجه. وليس بغريب أن تتوافق لذّة الإبصار الغربيّة مع عديد المنتجات الإفريقيّة، لأنّ ذلك مردود إلى التّطوّرات الحاصلة في مستوى المقاربات الإنشائيّة الحديثة، الّتي تتناول الأعمال الفنيّة من مناظير مختلفة، لَعلّ أهمّها القراءة الخارجيّة للأثار المنتجة لخطاب نقدي وجمالي موكول إلى إنشائيّة المادّة. وقد استطاعت المنتوجات اليدويّة الإفريقيّة أن تفرض حضورها على الذّائقة الغربيّة وعلى مستوى السّوق الفنيّة من خلال هذه المقاربات الحديثة ومن خلال قدرتها على أن تكون محلّية أوّلاً ومنعطيّة للرؤية ثانياً واستثنائيّة ثالثاً، وهو ما وفّر لها أهليّة الجذب إليها بقوّة حضورها. هذه هي المسألة الّتي رفعت من قيمة المنتجات اليدويّة، من مشغولات حرفيّة يتمّ تداولها ضمن نسق من التّعاطي الحياتي البسيط المردود إلى الفطرة وإلى البداهة والمرتبطة بالطّقوس وممارسة الحياة. بهذه النّظرة، من الخارج طوراً، ومن الدّاخل المادّي طوراً آخر ومن الأبعاد التّقنيّة اليدوية حيناً ومن القيمة الإنسانيّة والحضاريّة لثقافة يعدّها عبد الكبير الخطيبي ثقافة الإيقاع أحياناً، تنبثق جاذبيّة القطع الإفريقيّة. وتتضافر في هذا المستوى عديد العوامل الّتي من أهمّها تطوّر نسق المبادلات التّجاريّة منذ انتصاب الاستعمار وانبهار الغرب بالبعد الحرفي لهذه المنتجات والفنون وسطوة الآلة على حياة الغرب بحداثتهم وتقدّمهم ونزوع الفنّانين والقائمين على الوسط الفنّي إلى تصنيف المنتجات الحرفيّة قطعاً فنيّة.

وعي ومقاومة 

نعتقد أنّ الفنون الإفريقيّة، المتداولة منذ متوسّط القرن التّاسع عشر، هي الّتي وهبت الفنون المعاصرة في إفريقيا دفعها نحو البناء الحقيقي لتعبيرة خالصة لشعوب تتوق إلى حريّتها الثّقافيّة والاقتصادية، وترغب في نحت هويتّها الّتي تمّ استنزافها وتوظيفها جماليّاً وسلعيّاً وهو ما سعت إليه فئة غير قليلة العدد في بلدان المغرب العربي وفي مصر والسّودان وبلاد السّاحل الإفريقي، وليس من الغريب في شيء أن تتسابق لندن وباريس في السّعي إلى استقطاب الفنون الإفريقيّة المعاصرة، خاصّة السّمراء منها، ولأجل نسج علاقات مع رجال الاقتصاد المحليين قصد دفع الاستثمار في الميدان الفنّي نأخذ مثالاً على ذلك معرض «لنعرف إفريقيا أكثر» الّذي تشرف عليه الأميركيّة «فيكتوريا مان» على غِرار معرض «سحرة الأرض» المقام في باريس، أو ما يقوم به رواق «خارج إفريقيا» الّذي ينظّم أربعة معارض سنوياً في أوروبا لفنّانين أفارقة يتميّزون بالطّابع الإفريقي وبالطّرافة والجدّة مثل «صامبو بولاي» من «بوركينا فاسو» أو مواطنه النّحّات «بوكار بونكونقون» والفنّان «أكوي أنزازور» مؤسّس مجلّة «الفنّ الإفريقي المعاصر»، والّذي تحمّل عديد المسؤوليّات في مجال الفنون كرئاسة الدوكيمونتا بمدينة «كاسال» الألمانيّة بين سنتي 1998 و2002، ورُشِّحَ لرئاسة بينالي باريس. ولا يختلف هذا الفاعل في الفنون الإفريقيّة عن «سيمون نجمي» الكاميروني الّذي وفّر للفنون الإفريقيّة مجالات عديدة من الانتشار في أوروبّا، أسماء عديدة من بينها منير الفاطمي المغربي الّذي حيّرت أعماله المستقاة من الأوضاع السّياسيّة العربيّة والإفريقيّة والعالميّة فكر النّقاد بين قادح ومادح. غير أنّ هذه الفنون المعاصرة قد وجدت طريقها إلى الانتشار بمعطيات انتشار سابقاتها نفسه من التّعبيرات الفنيّة التّقليديّة، وخاصّة اتّكاءها على معطى الحياتي واليومي والمحلّي في صياغاتها التّشكيليّة المعاصرة. وهو أمر مهم للغاية في ما نعتقد من تفسير لظاهرة الإقبال عليها من طرف الغربيين أنفسهم.

حملت الفنون المعاصرة صورة الحياة في إفريقيا ومشاغلها ومشاكلها، وعكست أبعاداً من الواقعيّة السّحريّة الموصومة بالتّخييل، رغم أنّها لا تمثّل بل تقدّم الأشياء على ما هي عليه بتأطير تشكيلي أو- لنقل- بصري محترم وذكي. وقد توافرت أعمال الجنوب إفريقي الأبيض «برات بايلي هوس» الّذي تعامل مع قضيّة الميز العنصري ببلاده، ضمن سلسلة من العروض القياسيّة الّتي جسّمها عديد من السّود، منذ سنة 2010 على عديد الإشكاليّات المثيرة للرأي العام الدّولي والحقوقي، لأنها تطرح واقع الميز العنصري برؤية رجل أبيض. تولّت الفنون البصريّة الإفريقيّة المعاصرة دور التّعبير عن قضايا القارّة السّمراء وعن أسرارها دون أن تسقط في عديد من فخاخ التّبعيّة أو الانصياع إلى الأنموذج الغربي الموحدّ وصارت هي الأخرى مموّلة للفنون العالميّة بالجديد من التّعبيرات والتّقنيات والمقاربات، حتّى وإن شابت بعض نماذجها صيغ الاستجابة إلى طلب الاستزادة من صورة الغريب والعجيب عن الإفريقي وغيره من الجنسيات الأخرى لدى الغرب. وتبقى هذه الفنون أنموذجاً للوعي المقاوم لسيطرة الغرب ولتوجّهات العولمة لأنّها تحمل في طيّاتها روح التّفرّد وصدق التعاطي. 

لا بدّ أن نشير في آخر تناولنا هذا إلى الأهميّة الكبرى الّتي وجدها بينالي داكار للفنون المعاصرة أنموذجاً عن المؤسّسات الفنّية الإفريقيّة الكثيرة العدد، وقد أصبح هذا البينالي وجهة للفنّانين العالميين إلى أن صار علامة فارقة في الفنون المعاصرة والذي أكّد على القدرات الفنّية المهمّة لدى مواطني القارّة السّمراء، ما أهّلها كي تكون في موضع النّديّة مع الغرب. وهذا ما جعل عديد الأفارقة يتألّقون في المحافل الدّوليّة، ويتبوأون أهم المراتب وأعلاها في إدارة شؤون الفنون المعاصرة بما في ذلك مهرجانات أوروبّا وأميركا.
فاتح بن عامر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق