بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 17 سبتمبر 2015

«موت فيله» لبيار لوتي: بكاء محزن على الأطلال

في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1908، بعث الكاتب الفرنسي بيار لوتي الى صديقته المناضلة الاشتراكية والمهتمة في فرنسا وأوروبا بالقضية المصرية، رسالة جاء فيها: «لقد أنجزت لتوّي كتابي الذي كنت اشتغل عليه عن مصر. وكنت خلال الصيف المنصرم كتبت إهداء طويلاً الى صديقنا المسكين مصطفى، أتحدث فيه عن نزهاتنا في القاهرة، وما شابه ذلك. اليوم أتساءل عما إذا كانت الكلمات القليلة التي أرفقها إليك هنا، مكتفياً بها الآن
(إذ رحل م.ك. عن عالمنا هذا) لا تحمل العظمة والدلالة (في الإشارة إليه) عبر بساطتها؟». للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام محيّراً. لذا نوضح: الكتاب الذي يتحدث عنه بيار لوتي هنا هو «موت فيله». أما مصطفى المذكور باسمه العلم، ثم بالحرفين الأولين من اسمه، فهو مصطفى كامل، الزعيم الوطني المصري الكبير الذي كان صديقاً لبيار لوتي ولجولييت آدم. وكان توفي قبل فترة يسيرة من إنجاز لوتي كتابه.

> وتقول لنا سيرة لوتي إن الجولات والأفكار التي يعبر عنها في هذا الكتاب، إنما كانت حصيلة رفقته مع مصطفى كامل طوال فترة في الربوع المصرية، ومع هذا فإن لوتي لم يذكره بالاسم في سياق الكتاب، بل كان يكتفي حين يضطر إلى الإشارة في لحظة ما انه كان في رفقة آخرين في هذه الجولة أو تلك بالقول «نحن». والحقيقة أن «نحن» هذه كانت تشمل بيار لوتي ومصطفى كامل والدليل عثمان داناي. في النهاية ذُكر اسم مصطفى كامل مرة واحدة ولكن في صفحة الإهداء. في رسالته إلى جولييت آدم، يبدو لوتي نادماً على ذلك الإغفال. لكنه حسناً فعل. فإذا كان مصطفى كامل نادى دائماً بنهضة مصرية وعمل من أجل تلك النهضة بحماسة شديدة وفعلت جــولييت آدم مثله، فإن كتاب لوتي جاء على العكس من ذلك: جاء أشبه بنعي لمصر وحضارتها، ولو كانت الإشارة الظاهرة تشير إيجازاً الى الحضارة القديمة. فالحقيقة أن «موت فيله» هو واحد من أكثر كتب بيار لوتي سوداوية وتشاؤماً. ما يعني أنه لم يكن على أي تطابق مع أي من وجهات نظر مصطفى كامل في الأمر.
> مهما يكن، لا بأس من الإشارة هنا الى أن «موت فيله» هو واحد من أجمل كتب بيار لوتي وأقواها. وإذ نقول إنه كتاب، يجب ألا نغفل عن كون لوتي نشره أول الأمر على شكل حلقات صحافية يومية في صحيفة «لوفيغارو» التي كان يتعاون معها بين الحين والآخر. وقد كان من نجاح السلسلة وإقبال القراء ما دفع الى جمعها في كتاب سرعان ما أصبح علامة أساسية من علامات أدب الرحلات في شكل عام، وأدب بيار لوتي في شكل خاص.
> منذ الصفحات الأولى يبرز الطابع الأساس لهذا الكتاب: إنه أشبه بحلم يقظة يراود أديباً محباً لمصر ولحضارتها، لكنه الآن يبدو كالواقف على أطلالهما. وإذ يبدو الوقوف على الأطلال هنا منسجماً مع المناخ العام الذي كان يطبع نوعاً من النزعة الرومانسية لأدب الرحلات الاستشراقي، يبدو واضحاً أن الكاتب يجهد في كل فقرة وحين، للعثور على سبب... يبرر حزنه الفائق وإحساسه أنه واقف على الأطلال. ومن هنا إحساس القارئ الدائم بأن الكاتب إنما يختار بدقة وهدوء اللحظات والمشاهد التي تعزز مشاعره الحزينة: حتى الضوء الذي يتحدث عنه هو إما ضوء الغروب أو ضوء الفجر، حين تكون الظلال كثيفة في إحاطتها بآثار مصر القديمة وشواهد حضارتها، بحيث إنها تظهرها في الوقت نفسه الذي تُظهر فيه مرور الزمن. الزمن القاهر الذي يقتل كل شيء. وهنا، في مثل هذه الفقرات يقف الكاتب ناعياً ذلك الزمن متحسراً على موت كل شيء... كل الأشياء، ولا سيما ما هو بالغ الحسن منها. ولعل في واحد من مشاهد هذا النص ما يفسر هذا كله: ذات لحظة يكون كاتبنا واقفاً عند مرتفع يتأمل المدينة القديمة... يغمره شعور مبهم، إذ يشاهد الشمس بضوئها القوي تغمر كل شيء... يصف المشهد بروعة، ولا سيما حين يتحدث عن اقتراب الشمس الساطعة من كبد السماء، الى درجة أن ضوءها الغامر يلف المدينة كلها في شكل عمودي، بحيث لا يعود ثمة مكان للظل. إذاً؟ ها هو البعث النوراني يهيمن على كل شيء... أفلا يعني هذا أن ثمة حياة جديدة في الأفق، وأن هذا النور إذ يغمر كل شيء يبعث الحياة من أعماق الظلمة؟ منطقياً قد يكون هذا هو المعنى الحقيقي للمشهد. ولكن مهلاً، فالأمر هنا ليس على هذه الشاكلة: إن هذا الضوء وهذه الحياة الموعودة ليسا أكثر من خديعة كبيرة... إنهما أشبه بالنفس الأخير العميق الذي يلفظه محتضر لم يعد ثمة أمل في عودته الى الحياة. وها هو بيار لوتي، بدلاً من أن يغمره ولو قسط ضئيل من التفاؤل يكتب: «طيبة، المدينة/ المومياء الفسيحة، إن المرء اذ يراها على هذا النحو قد يقول إنها مدينة احترقت في شكل مباغت، تماماً كما لو كان في وسع حجارتها بعد أن تحترق. ذلك أن كل هذه الكتل الحجرية الضخمة المتناثرة، تبدو تحت ضوء الشمس الغامر والذي يعطيها لوناً أحمر قوياً، وكأن النار التهمتها». إن كاتبنا هنا لا يرى، إذاً، إلا النار منبعثة بدلاً من النور.
> هذه الرؤية التي يعبر عنها بيار لوتي في حديثه عن مدينة طيبة، قد تبدو على أي حال منطقية لشخص يتأمل ما فعله الزمن بحضارة غابت ولم يبق سوى أطلالها. غير أن لوتي لا يكتفي بهذا... ولا تقتصر نظرته السوداوية الحزينة على وصف ما حل بمصر القديمة، بل حتى حين ينظر الى مشاهد تنتمي الى مصر المعاصرة، ينظر بالنظرة السوداوية الحزينة نفسها، وإن كان التعبير عن مشاعره هنا يبدو أخف وطأة وأكثر تكتماً: أن لوتي ينظر بشيء من الإيجابية، وربما بشيء من الإعجاب الخفي أيضاً إلى مظاهر الحياة الحديثة في مصر المعاصرة. غير أنه ما إن يعبّر عن هذا، حتى يلتقط أنفاسه، كمن ضبط نفسه في موقف مخجل، ليستطرد قائلاً، بعد كل ضروب الوصف الإيجابي الذي يورده: «هذه الحياة الحديثة فرضها الأوروبيون على مصر! حياة آلات ومصانع وسياحة ورفاهية... لذا فإنها في الوقت نفسه الحياة التي لن تنتج في نهاية الأمر سوى المزيد من تخريب الحضارة القديمة... الحضارة الحقيقية في رأيه. وهذا كله ليس سوى موت حقيقي لمصر القديمة، مصر التي من الواضح لدى قراءة النص أن فيله التي يرد اسمها في العنوان ليست في حقيقة الأمر سوى رمز لها. ما يعني أن الكاتب إنما يقصد بالعنوان «موت مصر». أما فيله الحقيقية، مربع إيزيس الرائعة ومهد تلك الحضارة التي كانت حماسة هيرودوتس كبيرة وهو يتحدث عنها، فإنها حاضرة أيضاً. إذ ها هو بيار لوتي يقول لنا، وقبل نصف قرن على ولادة السد العالي، وفي وقت كان سد أسوان ينجز، كيف أن مياه السد تغمر فيله وتميتها (نعرف أن مصر لاحقاً وبمساعدة اليونسكو غيرت مكان معابد فيله لتقيها شر أن تغمرها مياه السد فتزيلها من الوجود نهائياً). وهذا ما يعطي بيار لوتي صورة شعرية رائعة عن مياه، هي في الأصل مصدر الحياة، تحمل الموت إلى فيله.
> يحتل كتاب «موت فيله» مكانة أساسية في نتاج بيار لوتي (1850 - 1923)، الذي كان واحداً من كبار الكتّاب الاستشراقيين في الأدب الفرنسي، هو الذي زار الشرق مراراً وتكراراً وكتب عنه نصوصاً تنتمي الى أدب الرحلات وأخرى إلى الأدب القصصي. وهو في علاقته بالشرق وبالإسلام لم يكتف بهذا، بل أمضى سنوات عدة من حياته يدافع عن الإسلام في الغرب، ويناضل مع القضايا المصرية المحقة. وإذا كان لوتي، بعد تفاؤل السنوات الأولى من حياته (والذي عبر عنه في الكثير من نصوصه الرائعة التي ساعده في كتابتها وأجوائها كونه بدأ حياته بحاراً يجول محيطات العالم وبحاره)، قد انتهى الى التشاؤم، فما هذا إلا لأنه كان صاحب نزعة رومانسية تؤمن بأن كل عصر ذهب إنما هو عصر مضى.
* ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق