بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 13 نوفمبر 2016

«ألمانيا حكاية شتاء» لهايني: يوم توقّع الشاعر انحطاط أمته

عندما وقف المستشار الألماني بيسمارك، في مجلس النواب ذات يوم ليصرخ أمام أعضاء ذلك المجلس «الرايخستاغ» طالباً منهم أن يكفوا عن التهجم على الشاعر هينريش هايني، قال بصوت مدوٍّ وهو يعرف مدى ما لصوته من تأثير، وما لمكانته من أهمية، هو موحّد ألمانيا وبطلها في ذلك الزمان: «لا تنسوا أيها السادة انه هو، من بعد غوته، كان مؤلف أجمل الأغاني التي كتبت في اللغة الألمانية». والواقع أن أعضاء «الريخستاغ» الذين كانوا يحاولون النيل من هايني في ذلك الحين إنما كانوا، في حقيقة الأمر، يعكسون فقط ما كان الرأي العام في بلادهم، يراه من أن ذلك الشاعر كان في ذلك الحين «عدواً لألمانيا» ومناصراً لفرنسا في وقت كان فيه العداء مستشرياً بين الأمتين ومن الصعب التوفيق بينهما فبالنسبة الى الألمان إما أنت معهم أو أنت ضدهم كما الحال في كل نزعة شوفينية والألمان كانوا في ذلك الحين من أكثر شعوب أوروبا شوفينية لا سيما في مواقفهم من الجيران الفرنسيين. ومن هنا كان من غير المنطقي لهم أن يسكتوا عن «خيانة» هايني الذي لم يكف عن نشر نصوصه العديدة ومن بينها قصيدته الأشهر «ألمانيا، حكاية شتاء»، تلك القصيدة التي كتبها أصلاً في باريس، وكانت غايته الأساسية منها الرد على سذاجة الكاتبة الفرنسية مدام دي ستايل، التي كانت اعتادت أن تكتب عن ألمانيا المجاورة كتابات تقطر ماء الورد، ولا تنتمي الى الحقيقة بصلة.
> عندما كتب هايني «ألمانيا، حكاية شتاء» Deutshland ein Wintermarchen، كان يعيش، اذاً، في فرنسا، تلك التي اختارها وطناً له، بعد أن أسأمه - وفق قوله - أن يواصل حياته في بلده الأصلي، ألمانيا، حين يسود التعصب وشتى النزعات القومية، ويغيب الفكر والعقلانية. وكان أشد ما يسئمه في ذلك كله أن البلد الذي يصل في التعصب القومي والوطني الى «هذا الدرك الأسفل» كان هو هو وطن العقلانية وكانط وهيغل، البلد الذي أعاد الى الفكر والفلسفة، مكانة كانت في ذلك الحين مفتقدة عملياً في أوروبا منذ خبا العصر الأغريقي، وطوى قدر كبير من النسيان كل تلك الأفكار العظيمة، التي ورثتها أوروبا من سلسلة باهرة من المفكرين الإغريق والرومان لتشع مرة في أفكار ونتاجات عصر النهضة ذات النزعات الإنسانية العظيمة، ثم مرة أخرى في أزمنة عصر التنوير التي جاء العداء السياسي بين فرنسا وألمانيا ليذروها مع رياحه. بالنسبة الى هايني، حتى وإن لم يكن راضياً عن كل ما يحدث في فرنسا التي أقام فيها باختياره، فإن ألمانيا كانت أسوأ لا سيما بالتراجع الفكري والإنساني الذي بدأ مفكروها يغوصون فيه سادرين في أفكارهم الغيبية متخلّين عن كل تلك الأفكار التقدمية التي كانت لسنوات قليلة خلت دلّت العالم كله على دروب العقل والمنطق. وفي فرنسا كان هايني قد آلى على نفسه أن يحارب فكرياً تخلف مواطنيه وهو الأمر الذي لم يغفروه أبداً له. وهنا قد يكود من المفيد أن نذكر أن هايني كان في الأصل رومانسيا، بل انه لقب بـ «آخر الرومانسيين»، غير أن رومانسيته لم تكن لتمنعه من أن ينظر الى الأمور مواجهة، وان تكون له آراؤه السياسية المنفتحة على آفاق العالم والفكر الانساني.
> عندما كتب هايني «ألمانيا حكاية شتاء» كان لا يزال متحمساً للتقدم الفكري والإنساني، بل إن سنواته الطويلة التي أمضاها في فرنسا يخالط صفوة مفكريها ويشغل مكانة مركزية في حياتها الثقافية، كانت أيقظت لديه ذلك الحنين الذي يمكن ان نتلمسه في معظم المقاطع الأولى من ذلك العمل الشعري الطويل. فهذا العمل، الذي شاء هايني من خلاله أن يرسم لوحة عاطفية وحسّية لشجرة العائلة الألمانية منذ العصور الوسطى وصولاً الى هيغل، كرد على كتاب مدام دي ستايل «عن ألمانيا»، الذي لم يتعامل معه إلا بمقدار كبير من الهزء والتهكم، هذا العمل الذي نشر في المرة الأولى في العام 1844 مع «قصائد جديدة»، ثم أعاد المؤلف نشره في العام 1851 مع مقدمة شرح فيها أنه لكي يتمكن من نشره في ألمانيا اضطر الى إجراء الكثير من التعديلات فيه، «وذلك حتى لا يغالي» أبناء جلدته الألمان في اتهامه بمعاداتهم، - متجاهلين أنه إنما يكتب ليس على الضد منهم، بل إنطلاقاً من رغبته في استعادة تقدمهم بين الأمم - يتألف من نصوص شعرية، تصف عودة الشاعر الى وطنه ألمانيا بعد غياب 13 عاماً قضاها في المنفى، فإذا بالحنين يختلط مع الذكريات، واذا بأرض الوطن تصبح أرض المعرفة.
> في اللحظات الأولى من القصيدة الطويلة هذه، يشتد الحنين ويروح الشاعر واصفاً روح ألمانيا «الحقيقية» في رأيه: روح التوق الى المعرفة، والعقل، ويصف الطبيعة وجمالها وما يتوقعه من الإنسان اذ ينسى كل أنواع التعصب. إن هايني يشرح هنا بكل بساطة وحب، موقفه الحقيقي من ألمانيا وفكرها وأهلها من دون أن تلوح في كتاباته نزعة التعصب الشوفينية كما هي ماثلة لدى أبناء قومه، ولا حتى النزعة الشمولية والسياسية - الغيبية، كما تلوح لدى مواطنه الشاعر الرومانسي غوريش. إن مشاعر هايني هنا هادئة: وإن ألمانيا التي يصفها ويتوق الى العودة اليها، ألمانيا التي يحلم بها في ليالي الشتاء الباردة، ويريد أن يفسرها للعالم، وأن يبرر حتى مساوئها، هي ألمانيا «الحقيقية» التي، في رأيه تجمع بين الروح الجرمانية الأصيلة، والوعي العقلاني التنويري الأوروبي، كما تجلى في فكر الثورة الفرنسية كما في فكر كبار التنويريين الألمان الذين نظروا الى تلك الثورة بعين العقل، لا سيما قبل كارثة العام 1813 التي بدلت ذلك كله، وأدت الى نمو شوفينية ألمانية كريهة، ضد فرنسا والفرنسيين، وضد الفكر الفرنسي خصوصاً. كل هذه المشاعر تتنازع الشاعر وهو متوجه في طريق العودة الى وطنه. وأمله، يبدو طوال الرحلة كبيراً، في أن يجد هذا الوطن وقد اتسم بالمسوح المثالية التي يريدها له.
> غير أن هذه الأحلام كلها سرعان ما تتبخر، اذ ما ان تطأ قدما الشاعر ارض الوطن، بعد غيبته الطويلة، وما إن يجابه الحقيقة بعيداً من احلامه وتصوراته المثالية، حتى تعود اليه - وبقوة أكثر - كراهيته لأبناء وطنه. فهم، لم يبقوا فقط على الجهل والعمى اللذين كانوا عليهما، بل زادت حدة هذا عندهم، وصاروا أجهل وأعمى من ذي قبل، صاروا شوفينيين كارهين للعقل وللآخرين أكثر من أي وقت مضى. ويرى الشاعر هنا أن هذا سيكون وبالاً عليهم وعلى البشرية جمعاء ايضاً، ونعرف طبعاً أن التاريخ حقق لهايني نبوءته، هو الذي لم يغفر له الألمان ذلك التهكم عليهم ابداً.
> اليوم، يعتبر هينريش هايني من كبار الشعراء الالمان، ومن الكتاب الأوروبيين الذين كتبوا نصوصا مهمة، ابداعية وعلمية، في اللغة الفرنسية ايضاً. ولكن في حياته، كانت لعنة هايني كبيرة، وهو عرف الفشل في أمور كثيرة اشتغل بها، ما جعل الفشل يشكل سمة أساسية من سمات حياته وكتاباته. ومع ذلك نجده كتب كثيراً، كتب شعراً وكتب للمسرح، وكتب في الفلسفة وفي السياسة. وكتب في تاريخ الفنون، وأناشيد (ليدر) لحنها كبار الموسيقيين الألمان، ومن بينهم شومان. كان يكتب بلا هوادة وكان يحزن ويحبط بلا هوادة. كأنه في هذا مرآة تعكس اضطراب اوروبا وقلقها في زمنه.
> وهايني ولد العام 1797 في دوسلدورف في ألمانيا، يوم كانت هذه المدينة خاضعة للسيطرة الفرنسية، ومات العام 1856 في باريس، بعد مرض اقعده ثمانية اعوام كانت الأكثر ضراوة وإيلاما في حياته. وهو بدأ الكتابة باكراً، وتشبعت روحه بالاساطير الجرمانية الشمالية، وراح ينهل من الآداب الفرنسية والانكليزية، ووعى في شبابه على الفكر التنويري منتشراً، وعلى الرومانسية تعيش ازهى لحظاتها في زمن التغيرات الاوروبية الكبرى.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق