بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

«مع خالص تحياتي» لغراهام غرين: دفاعاً عن العقل ضد الغباء

يرسل كاتب ما، أو قارئ، أو كاتب هو قارئ في الوقت نفسه، إلى صحيفة من الصحف، نصاً يعلق فيه على أمر قرأه في الصحيفة نفسها، ورأى أن من الأفضل أن يعلق عليه، ثم يلحق ذلك النص المرسل بمكالمات هاتفية تستفسر عن المكان الذي سيرتأي المحرر نشره فيه. وغالباً - بل دائماً - ما يغضب إن قال له المحرر إن المكان الطبيعي لهذا النوع من التعليقات هو صفحة بريد القراء. يعتبر هذا حطّاً من شأنه وتقليلاً من أهمية مقاله. وكثيراً ما اصطدم المحررون بالكتاب، كباراً وصغاراً، بسبب هذا النوع من «سوء التفاهم» الذي يجابه العلاقة بين من يكتبون وبين صفحات البريد في الصحف. ونقول سوء تفاهم لسبب بسيط وهو أننا، نحن أهل الصحافة، نعرف منذ زمن بعيد، أن صفحة البريد - وقد تكون صفحات - هي أهم صفحات الصحيفة، والمادة المنشورة فيها هي المادة التي تُقرأ ربما، أكثر من أية مادة أخرى... ولعل الاحترام الذي يكنّه أهل الصحيفة عادة، للآراء والتعليقات والملاحظات الواردة في هذه الصفحة، يفوق احترامهم أية آراء أو تعليقات أخرى تجابههم في عملهم. ومع هذا، عبثاً تحاول إقناع كتابنا الكبار، وقراءنا الطيبين بهذا الواقع. ومن هنا إذا كنا نحن عاجزين عن أن نقنع قارئنا بوجهة نظرنا وبأهمية «بريد القراء» وفق هذا القارئ - الكاتب، إن كان ملمّاً ببعض اللغات الأجنبية ويعرف شيئاً أو أشياء عن كبريات الصحف الإنكليزية أو الأميركية أو الفرنسية أو غيرها، أن يتصفحها، ليتأكد من المكانة التي يحظى بها قسم البريد. وحسبه أن ينظر في أسماء أصحاب الرسائل ليفاجأ بنوعية وكمية أصحاب الأسماء الكبيرة. إن هذا، في الصحافة الكبيرة، تقليد عريق... وما كتاب غراهام غرين، الذي صدر قبل سنوات ليشكل ما يشبه المفاجأة... الطيبة لكثر على أية حال، حيث إن صاحبه معروف بكونه واحداً من كبار روائيي القرن العشرين، والمعنون «مع خالص تحياتي» أو «محسوبكم... الخ»، سوى أسطع مثال ودليل على ما نقول.
> منذ العام 1945، حين كان غراهام غرين قد وصل الى ذروة مجده الأدبي وأصدر بعض أكبر رواياته، وحتى العام 1989، الذي سبق موته، استبدت بصاحب «جوهر المسألة» و «صخرة برايتون»، عادة مدهشة، أو لنقل: هواية مدهشة... وهي التعليق على ما ينشر في الصحف. فهو عند كل صباح، وبعد أن ينتهي من قراءة الكثير من الصحف، كان الأمر ينتهي به الى الرغبة في التعليق على بعض ما قرأه. في بعض المرات كان يستجيب لرغبته، وفي مرات عدة أخرى كان يؤجل ذلك أو يستنكف عنه. وفي المرات التي كان يكتب فيها التعليق، كان يرسله فوراً الى الصحيفة المعنية، لينشر - في معظم الأحيان في صفحة البريد - والطريف أن غراهام غرين، الذي كان هو نفسه، صحافياً في شكل أو في آخر، لم يكن يحب صحافيي ما بعد الحرب العالمية الثانية كثيراً، وكان يقول - وفق ما يذكر سلمان رشدي في تقديمه للكتاب - إن معظم الكتّاب يسعون الى التعبير عن الحقيقة، بينما لا يتوقف الصحافيون عن الغش. وقد يكون هذا الكلام ظرفياً ومبالغاً فيه. غير أن الواقع يقول لنا أن التعليقات التي كان يكتبها غرين ويرسلها لتنشر، كانت تهدف دائماً الى مجابهة «ابتعاد الصحافة عن الحقيقة» بـ «دنو الكتاب منها».
> في الكتاب المذكور، والذي جُمعت مواده من مئات صفحات البريد في الصحف الصادرة خلال ما يقرب من 45 عاماً، ما يزيد على مئة وعشرين رسالة، تم اختيارها بعناية، في شكل جعل المتن النهائي لها مجموعاً، يرسم ما يشبه سيرة فكرية لغراهام غرين خلال النصف الثاني من حياته. بل ربما أكثر من هذا: يكشف تتابع هذه الرسائل، - التي لا ندري ما كان تعليق صفحات البريد في الصحف المعنية، عليها -، عن سيرة للحياة الفكرية والثقافية، وربما السياسية أيضاً في إنكلترا والعالم بعيد الحرب العالمية الثانية، بخاصة، ثم خلال السنوات التالية. ذلك أن تعليقات غرين تتناول أموراً كثيرة تمتد بين الاستراتيجيات السياسية العالمية، والمشاغل النقابية الداخلية. أو كما يقول الناشر في تقديمه للكتاب: «كل شيء كان يثير اهتمام غرين، من رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، الى دوائر البريد الإنكليزية، ومن بابا روما - كان غرين كاثوليكياً - الى وسائل منع الحمل، ومن طقوس الفودو في منطقة الكاراييب، الى الحانات القائمة في المطارات، ومن فييتنام الى غورباتشيف»... وهكذا، في كل مرة كان فيها غرين يقرأ موضوعاً أو خبراً يثير اهتمامه أو فضوله، أو غضبه، كان يأخذ قلمه ويكتب: والطابع الغالب على ما يكتب في هذا الإطار، كان الفضول الشديد والدقة المتناهية و... قلة الأدب أيضاً. فهو ما كان يتورع عن توجيه الشتائم، وعن وصف الغبي بالغبي، والأحمق بالأحمق... لم يكن يحب أن يمضغ كلماته.
> إذاً، يضم هذا الكتاب مختارات من بين ألوف الرسائل. غير أن القسم الأعظم من الرسائل كان موجهاً الى صحيفة «التايمز» اللندنية... وبعضها كان موجهاً الى «الاندبندنت» و «السبكتاتور»... وأحياناً الى «لوموند» و «الفيغارو» الفرنسيتين. غير أن الكتابة الى هذه الصحف الكبرى، لم تكن لتتناقض، في نظر غراهام غرين، مع الكتابة الى بريد صحف أقل شأناً وانتشاراً. ويرى جامعو الرسائل انهم لو تفرغوا سنوات طويلة ووضعت بين أيديهم عشرات المجلات والصحف، لتمكنوا من أن يحصلوا على مئات أخرى من الرسائل. وفي هذه الرسائل جميعها، لم يكن غرين ليتورع عن الحديث، وأحياناً بغضب، عن زملاء له، من امثال فلاديمير نابوكوف وجون لوكاريه وإفلين فو وفرانسوا مورياك... وكذلك سنجد لديه ذكراً لسوكارنو وماك آرثر وتشرشل والأميرة مرغريت... ومن ناحية البلدان، ستجد ذكراً لكوبا واليونان وقبرص ومصر وجزر المالوين وغواتيمالا، وذلك بالتزامن مع أحداث كبرى عرفتها هذه البلدان وغيرها. وكان غرين يرى أن ليس عليه أن يمرر أي حديث انكليزي أحمق عنها في الصحف كما هو. وفي شكل عام، إن كان للمرء أن يخلص من هذا كله بفكرة أساسية كانت هي ما يملي على غراهام غرين ردود فعله، فإن هذه الفكرة لن تكون سوى الدفاع عن العقل ضد الغباء. غرين ما كان في إمكانه أبداً أن يقرأ في صحيفة أية فكرة غبية - أو يراها هو غبية على أي حال - إلا وينتفض مصححاً، شاتماً، ناقداً، وهمه الأساس أن يدفع القارئ الى عدم اتباع الصحافي أو السياسي، أو غير هذين في خطأهما.
> في نهاية الأمر، إذا كان نشر هذه الرسائل ساهم أكثر وأكثر في تعريف القراء بالجوانب المتعددة والغنية لهذا الكاتب الذي كان من كبار مبدعي القرن العشرين، فإنه - أي النشر - يقدم مساهمة أساسية في وضع صفحات البريد في مكانتها الطبيعية: الحيز الأمثل للسجال والحوار، والمكان الأفضل للتعبير عن الرأي بكل حرية وقوة، ذلك أننا، وكما نعرف - في الصحافة الأوروبية على الأقل - تعتبر صفحات البريد، أقل صفحات الصحف تعرضاً لعسف الرقابات ومزاجيات المحررين والمسؤولين.
> فهل ترانا تمكنّا من إقناع أحد بهذا؟ ربما نعم وربما لا. ولكن يبقى أن غراهام غرين، كان في هذا المجال، واحداً من كبار الرواد المنصفين. الرجل الذي علق الجرس في ذنب الثعلب، وأعاد الاعتبار لصنف فكري صحافي وهو واحد من أهم قطاعات العمل الصحافي الإنكليزي على اية حال. والحقيقة أن هذا لم يكن غريباً على كاتب ملأ رواياته بالمشاكسة والبحث عن الحقيقة، والأفكار الجديدة. نقول هذا ونفكر طبعاً في أعمال له - تنطلق على أية حال مما يشبه التحقيقات الصحافية - مثل «القوة والمجد» و «الرجل الثالث» و «القنصل الفخري» و «العامل البشري» و «عميلنا في هافانا».
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق