بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

الكتاب المجهول

في المكتبة العامّة التي أقصدها دوماً اخترت كتاباً لم أبصر له عنواناً، ثم جلست إلى الطاولة التي اعتدت الجلوس اليها في إحدى زوايا البهو الواسع، الذي يسمّيه حارس المكتبة، العجوز، بهو القراءة. ما إن فتحت الكتاب حتى فوجئت بهوامش مدوّنة على جانب الصفحات بالقلم الرصاص. عرفت للحين أنّ الجمل هي لي. إنّه خطّي. لكنّ هذا الكتاب لم أقرأه من قبل: لم أفتحه يوماً. رحت أقرأ الجمل المكتوبة لأتيقّن من أنني أنا الذي كتبها. إنها أفكاري. حتى الأحرف مكتوبة مثلما أكتبها أنا. ومع أنّ الجمل كانت غامضة قليلاً حتى أنني لم أتمكّن من فهمها جيداً، بتّ على يقين أنني أنا مَن كتبها. رحت أقلب الصفحات الصفراء التي تذكّرت رائحتها العطنة، قارئاً ما كتبت على الهامش بالقلم الرصاص، القلم نفسه على ما أظن الذي كنت أحمله بين أصابعي. وكلّما قلبت صفحة اكتشفت جملاً أخرى تتواصل كأنها جملة واحدة. هذا الكتاب لم أقرأه من قبل. إنني متيقّن أنني لم أفتحه يوماً. ولمّا اشتدّ اضطرابي، رحت أكتب المزيد من الجمل على هامش الصفحات الأخرى، بالقلم الرصاص نفسه. لكنني لم أعلم ماذا كنت أكتب ولا إن كنت أنا مَن يكتب، بالقلم الرصاص، القلم نفسه الذي بين أصابعي.
مدينة الأرق
> رفع الرجل العجوز يده وقال لي: عندما تقترب من مدخل هذه المدينة، إيّاك أن تدخلها. هزّ يده ثلاث مرات وهو يدلّني إليها من المرتفع الذي كنّا عليه. عندما قال لي ذلك، قلت لنفسي أنّ عليّ أن أقصد هذه المدينة لأعلم لماذا يحرّمها عليّ. واصلت المشي نزولاً حتى وصلت مدخل المدينة. على المدخل ارتفع لوح كتب عليه: ممنوع دخول الغرباء. لم أبال بما كتب على اللوح ودخلت. كان الليل بدأ يرخي خيوطه، الشوارع مضاءة، الناس كعادتهم في كل مدينة، يمشون على الأرصفة ويتنقلون في عربات تجرّها خيول. دخلت حانة لأستريح قليلاً من عناء المشي، وما إن أزحت كرسيّاً لأجلس عليه، حتى رمقني النادل الخمسيني بنظرة غريبة، وكأنّه يعاتبني على دخولي الحانة. لكنه ما لبث أن اقترب منّي سائلاً إياي ماذا أشرب. طلبت كأس نبيذ، هزّ رأسه وذهب. لم يكن عجوزاً لكنّ منظره لم يكن أليفاً: عيناه شبه بيضاوين، شعره يكاد يكون أبيض كلّه، يداه ترتجفان، ظهره شبه محنيّ، ينقل نظراته مثل رجل مضطرب، يمشي مثقلاً وكأنّ على كتفيه حملاً ينوء به... أتى بالكأس، وجلس إلى طاولتي من دون أن يستأذنني. ثم راح يحدّثني بصوت مجهد، سألني: أنت غريب عن مدينتنا، أليس كذلك؟ إنني غريب، بل عابر سبيل، إن شئت، أجبته. وسألته: ما اسم هذه المدينة التي لم أجد عند مدخلها إشارة تحمل اسمها؟ قال لي: انها مدينة الأرق، هذا اسمها الآن، كان لها في السابق اسم آخر، لكنني لا أذكره. فوجئت بهذا الاسم ونظرت الى النادل مستغرباً، فابتسم وقال: هكذا أمسى اسمها بعدما حلّت حمّى الأرق بأهلها. حمّى الأرق، لا تستغرب. لا أستطيع أن أشرح لك أكثر، كيف حلّت الحمّى ومتى وكيف عمدت السلطة الى عزل المدينة ومنع الغرباء من زيارتها، لئلا يصابوا بهذه الحمّى، حمّى الأرق. أصابني قدْر من الخوف ممزوجاً بالذهول. قلت له: هل أصبت بالحمّى فور دخولي المدينة؟ قال: أعتقد. ألم تلاحظ على وجهي، عندما نظرت إليك، علامات العتب؟ ستصبح الآن واحداً منا، سيهجر النوم عينيك وتمضي لياليك مثل نهاراتك، يقظاً وأرقاً. حتى النعاس لن تذوق طعمه بعد اليوم. ستصبح حياتك رتيبة، كأنها زمن واحد، لا يبدأ ولا ينتهي، لن تحلم بعد اليوم لأنك لن يغمض لك جفن، وستجد نفسك تتضاءل، تهرم ببطء، عيناك ستصبحان بيضاوين... انظر إليّ، ستصبح مثلما تراني... حتى إذا تزوّجت إحدى فتياتنا فستنجب أولاداً لا ينامون.

* عبده وزن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق