بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 20 نوفمبر 2016

ترامب بين أصوليتين: «منقذ» في المسيحية… «مخلّص» في اليهودية

أشارت مواقع إسرائيلية، وكتب معلّقون إسرائيليون راسخو العلم في شؤون وشجون المجموعات الإسرائيلية اليمينية المتدينة، والمتشددة تحديداً، أنّ شرائح واسعة من هذه المجموعات ترى أنّ انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة يمثّل «معجزة إلهية». كما تنظر إلى شخص الرجل «وكأنه المخلّص المنتظر»، حسب توصيف موزال موعالم، معلّقة الشؤون الحزبية في موقع «يسرائيل بالس»، لأنّ ترامب سوف يسمح بتهويد الضفة الغربية والقدس المحتلة، وسيحقق البرنامج السياسي لليمين الإسرائيلي، خاصة إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية.
تقارير أخرى، وتعليقات مماثلة، يمكن العثور عليها مترجمة إلى العربية في موقع «عربي 21»، بينها ما كتبه بن كاسبيت، أحد أبرز المختصين في سياسات مجموعات اليمين الإسرائيلي المتدين، من أنّ «فورة الفرح» التي اجتاحت هذه المجموعات كانت تشبه ما وقع بعد هزيمة جيوش الأنظمة العربية في حرب 1967.
ونقل كاسبيت عن وزير التعليم المتدين، نفتالي بينيت، الذي يحدث أنه رئيس حزب «البيت اليهودي» أيضاً، قوله إنّ «ترامب يمثّل المسيح المخلّص»، وهذا ما جعله «يطالب بضمّ الضفة الغربية لإسرائيل، إلى جانب إعلانه موت حلّ الدولتين».
فإذا صنّف المرء هذا كلّه في باب هستيريا التشدد الفقهي اليهودي، وثمة هنا فصول أكثر إثارة للعجب، أو في باب خبل التأويل، الناجم عن فورة الفرح الغشيم إياها، فإنّ الأدهى، والأهمّ دلالة، هو مواقف مجموعات الضغط اليهودية، المنحازة إلى إسرائيل على نحو أعمى، إزاء بعض الشخصيات التي رُشحت لاحتلال مناصب رفيعة في فريق إدارة ترامب. على سبيل المثال الأول، عُيّن ستيف بانون مسؤولاً عن ستراتيجيات البيت الأبيض، وكبير مستشاري ترامب، فسكتت عن التعيين أبرز مجموعة ضغط إسرائيلية في أمريكا، الـ«إيباك»، رغم أنّ بانون متهم بمعاداة السامية، وباتخاذ مواقف عدائية من اليهود. كذلك رفض الخوض في الموضوع ـ على غير العادة، بالطبع! ـ غالبية المعلّقين الأمريكيين الذين اعتادوا التطبيل لإسرائيل، والتزمير عند أدنى بارقة خطر تتبدى في واشنطن ضدّ تل أبيب.
ثمّ إذا انتقل المرء إلى أمريكا ذاتها، وإلى المجموعات المسيحية المتشددة، في صفوف البيض تحديداً (وهم أمضى أسلحة الحزب الجمهوري، في مواسم الانتخابات خصوصاً)، فإنّ المؤشرات تقول إن غالبية ساحقة من هؤلاء اختاروا ترامب، بل خاضوا معارك شرسة، «من باب إلى باب» كما يُقال، لدعم حملته، وتسهيل انتخابه. ورغم الارتياب في حقيقة إيمان ترامب، من زاوية دينية مسيحية، فإنّ 80٪ من الناخبين الإنجيليين البيض صوتوا له مقابل 15٪ من الإنجيليين السود والهسبان. وكما هو معروف، انبثقت الحركات الإنجيلية في أواسط القرن العشرين، وبدت غير مكترثة بالسياسة والتحزب، حتى اجتذبتها إلى المعمعة قوانين تشريع الإجهاض، مثلاً، وكانت سنة انتخاب جيمي كارتر، «المتدين» و»الورع» كما صُوّر يومئذ، بمثابة الذروة في التنشيط السياسي للحركات الإنجيلية.
طريف، في المقابل، أنّ هذه الشرائح تتلاقى مع تلك الشرائح اليهودية المتدينة في إسرائيل، حول سلسلة من التفسيرات الفقهية، توراتية المنابع، حتى إذا ظلّت قاصرة في التفسير أو مفرطة في التأويل. ثمة نظرية متكاملة (جرى التبشير بها في القرن الثامن عشر)، تقول بعودة يسوع إلى عالمنا هذا لتخليصه من الشرور، وذلك حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيل، ثمّ نجاحها في احتلال كامل «أرض التوراة»، أي معظم الشرق الأوسط، وإعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضدّ إسرائيل، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون (دون سواه!)، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إمّا الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهّد لعودة المسيح المخلّص!
وكما هو معروف، هنالك سلسلة ولايات تُلقّب بـ «حزام التوراة» نسبة إلى شدّة تديّن أبنائها. وثمة شبح يجوس ليالي، ونهارات، كبار ممثّلي الحزب الجمهوري، خاصة حين تأزف مواعيد انتخابات الكونغرس أو الانتخابات الرئاسية، متخذاً هيئة كابوس يحمل الويل والثبور عند البعض، أو هيئة ملاك حارس يحمل البشرى والسند عند البعض الآخر. وهذا شبح من لحم ودمّ، صاخب، مشاكس، لا يكفّ عن اتخاذ المواقف وإطلاق التصريحات التي تضعه على كلّ شفة ولسان: إنه ماريون غوردون (بات) روبرتسون، المؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة «التحالف المسيحي»، أكثر الحركات الدينية القاعدية نفوذاً وسطوة في السياسة الأمريكية المعاصرة.
روبرتسون ذهب إلى حدّ وضع ترامب في مصافّ يسوع، وحكى للمؤمنين هذه «الرؤيا»: «زارني الله في المنام ليلة أمس وأراني المستقبل. أخذني إلى السماء، وهناك رأيت دونالد ترامب جالساً على يمين الربّ مباشرة». أيضاً، استهجن روبرتسون ما تردد حول فضائح ترامب الجنسية، معتبراً أنه «عنقاء سوف تنهض من الرماد»! وليس من الحصافة أن يُنظر باستخفاف إلى موقف كهذا، أو أن يهمله المراقب المعنيّ بالديناميات الداخلية لمشهد الحركات الأصولية المسيحية، من الطراز الذي يقوده روبرتسون على وجه التحديد. الرجل كان مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التمهيدية لعام 1988، وحركته تضمّ ما يزيد على 1.2 مليون عضو منتسب، وتُقدّر لائحة بريدها الإلكتروني بنحو 2.8 مليون عنوان، وتدير إمبراطورية هائلة عمادها التبشير الديني المتلفز عبر عشرات الشاشات، التي بينها الشبكة المعروفة CBN، فضلاً عن «قناة الأسرة» المستقلة، والعديد من الإذاعات، وجامعة معلنة واحدة على الأقل هي جامعة ريجنت، و«المركز الأمريكي للقانون»
فوق هذا وذاك، التفّ ويلتفّ حول المنظمة كبار أفيال الحزب الجمهوري، ممّن يشغلون أرفع المسؤوليات في الكونغرس (حين يكون الحزب خارج السلطة)، وفي البيت الأبيض حين يكون الرئيس جمهورياً، واللائحة أطول من أن يفصّل المرء أسماءها الشهيرة ومواقعهم الحساسة. والمنظمة، إجمالاً، تسيطر على ممثلي الحزب الجمهوري في أكثر من 12 ولاية، بما في ذلك تكساس وفلوريدا، ولوائحها للانتخابات المحلية بمختلف صنوفها تحصد عادة نسبة تتراح بين 40 و60٪. وفي انتخابات 2000 الرئاسية، كان السناتور الجمهوري جون ماكين (المرشّح آنذاك لبطاقة الحزب) قد اضطرّ إلى خوض معركة شرسة ضدّ روبرتسون، المتحالف مع جورج بوش الابن، قبل أن يلعق جراحه، ويطوي جناحيه، وينسحب من معركة الترشيح.
وفي صيف 2006 سارع روبرتسون إلى إسرائيل، لكي يصلّي مع رئيس وزرائها آنذاك، إيهود أولمرت، من أجل انتصار جيشها في عدوانه البربري على لبنان. هنا فقرة ممّا فاضت به روحه من «مشاعر» خلال تلك الصلاة: «أنا هنا لكي أقول إنني أحبّ إسرائيل. أنا هنا لكي أقول إنّ المسيحيين الإنجيليين في أمريكا يقفون مع إسرائيل في كفاحها. ومن أجلنا جميعاً، لا ينبغي لإسرائيل أن تخسر هذا الكفاح. أعتقد أنّ شعب إسرائيل يعرف أصدقاءه، ويعرف أنّ أصدقاء إسرائيل هم المسيحيون الإنجيليون». ختام تلك «المشاعر» كان المزاودة على أعتى صقور الدولة العبرية، حين اعتبر روبرتسون أنّ مرض أرييل شارون هو «عقاب إلهي»، سببه قرار الأخير بالانسحاب من غزّة!
فهل من الغرابة، والحال هذه، أن تتقلّب النظرة إلى ترامب عند الأصوليتَيْن، اليهودية والمسيحية، بين «المعجزة» و«المنقذ»، دون أدنى اكتراث بسجلّ الفضائح والمخازي، أو بأمزجة العداء للسامية، لدى بعض رجالات الإعجاز والإنقاذ؟ أو، بالأحرى، هل من الحكمة أن يتناسى المرء أنّ التقاء المصالح، في غمرة هستيريا التأويل وعماء التشدد، على غرار ملتقى الأصوليتَيْن، هو القاعدة وليس الاستثناء؟

*صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق