بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 2 نوفمبر 2016

هوس الهويات المغلوطة

من حسن الموافقات أن كتاب الباحث السياسي الفرنسي بليغ النابلي عن «جمهورية الهوس بالهوية» قد صدر في باريس هذه الأيام بالتزامن مع بدء هيئة الإذاعة البريطانية في لندن في بث سلسلة «محاضرات ريث» الشهيرة التي يقدمها هذا العام الفيسلوف البريطاني كوامي أنثوني أبايا بعنوان «الهويات المغلوطة». ومعروف أن «محاضرات ريث»، التي تبث في مثل هذا الموسم من كل عام، إنما تمثل حدثا فكريا بامتياز. فقد أطلقت سلسلة المحاضرات السنوية هذه عام 1948 تكريما للسير جون ريث الذي كان أول مدير عام في تاريخ المؤسسة الإذاعية العريقة والذي وضع لها دستورها الذي يلزمها بخدمة المصلحة العامة عن طريق الجمع بين وظائف الإمتاع والإعلام والتثقيف على أساس من الجودة الفنية والرقي الأخلاقي. وقد ظلت البي بي سي في الأعم الأغلب ملتزمة بهذه الرؤيا الإعلامية ليس في البث الداخلي فقط، بل وحتى في البث الخارجي بمختلف اللغات. وقد كان الجمهور العربي يعرف مدى جدية البي بي سي وجودتها بفضل برامج القسم العربي (أو إذاعة «هنا لندن»، كما كان يقال) التي كانت حتى أواخر القرن العشرين تقدم بعض أفضل مواد البث الإذاعي باللغة العربية في العالم على الإطلاق.
وقد تعاقب على إلقاء محاضرات أعلام في الفكر والعلم والثقافة من طراز الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، والعالم الأمريكي روبرت أوبنهايمر، والدبلوماسي والخبير السياسي الأمريكي جورج كنان، وعالم الاقتصاد الأمريكي جون كنث غالبريث، والباحث الكيني علي مزروعي، وعالم الاجتماع البريطاني أنثوني غيدنز، والروائي النيجيري وول سوينكا. كما أن إدوارد سعيد هو الذي كان ضيف ريث عام 1993، وقد نشرت محاضراته بعد ذلك في كتاب بعنوان «صور المثقف» أو «تمثلات المثقف».
والواقع أن مسألة الهوية، التي تناولها كوامي أنثوني أبايا بأسلوب جذاب، لم تصر قضية إشكالية مطروحة على الإنسان المعاصر إلا منذ بضعة عقود فقط. إذ لم تكن هذه المسألة تشغل الفكر الفلسفي لا في العصر الوسيط ولا في العصر الحديث. بل إن حتى الفكر الوجودي ذاته لم يكن منشغلا بقضية الهوية انشغالا مباشرا، وإنما كان اهتمامه منصبا على مسألة الفاعلية الإنسانية الفردية، دونما فتح على أفق نظرية اجتماعية أو سياسية محددة. ولهذا فقد يجوز القول إن ميشال فوكو كان من أوائل من دشنوا هذاالمبحث المتنامي عندما كتب مقالا أواخر السبعينيات بدأه بالقول: «من هنا فصاعدا، لاتتحدد الهويات بالمواقع، بل إنها تتحدد بالمسارات». أي أن الهوية ليست معطى قائما بذاته أو ثابتا في الزمن، وإنما هي محصلة تجارب الفرد واختياراته وقراراته في تفاعله مع مجتمعه (أو بالأحرى مجتمعاته المتعددة) ومع العالم. 
ويندر أن تجد في أوروبا بلادا تعاني من التهاب أزمة الهوية بقدر ما تعاني فرنسا. وهو ما يوضحه بليغ النابلي باقتدار، حيث يبين أن الأزمة ليست ناجمة عن تنامي الهويات الاثنية والدينية الأقلّوية المضادة للهوية الوطنية الجامعة فحسب، بل إنها ناجمة في المقام الأول عن مفارقة تتمثل في أن الأغلبية هي التي تريد فرض رغبتها الانعزالية (!) على جميع مكونات المجتمع، وذلك بتنميط هوية فرنسية علمانية ملساء لا تضاريس فيها ولا تمايز ولا اختلاف. هوية علمانية، بل مناضلة في علمانيتها، ولكنها غيورة مع ذلك على جذورها «اليهو-مسيحية». هذا رغم أن المؤرخ الأمريكي ريتشارد بوليت كان قد أثبت منذ أكثر من عشرة أعوام أن مفهوم الجذور اليهو-مسيحية مفهوم لا جذور له لأنه لم يستحدث إلا في القرن العشرين!
أما كوامي أنثوني أبايا، الذي تزوجت أمه البريطانية والده الغاني عام 1953 وكانت ناشطة في منظمة «الوحدة العرقية» الساعية لإحلال الوئام بين الأعراق في مختلف أرجاء الامبراطورية البريطانية، والذي روى طرائف عن حيرة سائقي التاكسي في لندن في أمره بسبب لكنته الانكليزية «رغم» سحنته الافريقية، فإنه يقول بأن الديانة لا دور لها في تحديد الهوية. وقد يبدو هذا قولا شاذا، نظرا إلى أن كثيرا من الناس يعرّفون أنفسهم بأنهم مسلمون أو مسيحيون أو هندوس، الخ. ولكن تعدد طرائق انتماء الأفراد لعقائدهم الدينية تبين نسبية القول بالديانة محددا من محددات الهوية. وهذا رأي سبق للمفكر الإيمانيّ الأصيل الأستاذ محمد الطالبي أن عبر عنه منذ زمن طويل عندما قال بأن الإسلام دين ولكنه ليس ثقافة أو هوية. ولهذا يتوزع المسلمون على هويات وثقافات شتى.
٭مالك التريكي- كاتب تونسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق