بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 مايو 2016

«في الحكم المدني» لجون لوك: السلطة والأفراد وتاريخهما

إذا كان كتاب الفيلسوف الإنكليزي جون لوك «في الحكم المدني» (وفق ترجمة ماجد فخري الى العربية)، أو «مقالتان في الحكومة المدنية»، يعتبر الأشهر بين كتبه، فإن من الصعب على أية حال أن نقول عنه إنه الأفضل. فبعد كل شيء، حتى وإن كان هذا الكتاب المؤلف من دراستين متفاوتتي القيمة، وفق مؤرخي الفلسفة والفكر السياسي، يعتبر من الكتب الأساسية في تاريخ هذا الفكر، فإن مؤلفه انما وضعه لأسباب ظرفية، أو هذا على الأقل ما تقوله «الموسوعة الفلسفية المختصرة» التي تذكر انه كان يهدف أصلاً الى «تقديم تبرير نظري للآراء السياسية التي يعتنقها أولئك الذين كانوا يريدون التخلص من حكم «آل ستيوارت» المتعسف، ليضعوا مكانهم ملكية ذات سلطات محدودة تحديداً ضيقاً». ومن هنا فإن «الموسوعة» تعتبر ان بحثه الأول في هذا الكتاب، هو عبارة عن «تفنيد موفق لرأي لا يستحق هذه العناية المسهبة».
> مهما يكن فإن لوك يعتنق في عرض مبادئه السياسية لا سيما في هذا الكتاب ذي القسمين، التقليد شبه التاريخي الذي كان سائداً في ذلك العصر، حيث نراه يصف المجتمعات على أنها «ظهرت عن حالة من حالات الطبيعة الفطرية، ونتيجة لعقد اتخذه الأفراد مشتركين للخضوع لحاكم او عدة حكام في سبيل الحصول على مصالح بعينها». ومن الواضح هنا أن هذا التأكيد يتناقض مع ما يقوله هوبس الذي يؤكد ان الحاكم، في مثل هذه الحالة، لن يمكنه أن يكون إلا حاكماً مطلقاً، حيث «اذا كان لا بد من كبح جماح بعض أعضاء المجتمع بطريقة فعالة، لا بد من أن يتمتع الحاكم بسلطة مطلقة فوق الجميع». وهذا كلام يرد عليه لوك قائلاً: «إن حقوق الحاكم محدودة كغيره من الناس، من جراء قانون الطبيعة نفسه. وثانياً، إن الحاكم انما خوّل سلطاته على أنها ضرب من الثقة تُستخدم لخير أفراد المجتمع»، وبالتالي «يمكن استرداد تلك السلطات اذا زالت الثقة». والحال إننا بدأنا هنا بإيراد هذا التعارض بين هوبس ولوك، لأنه يشكل أفضل مدخل لفهم كتاب لوك الذي نحن في صدده، مع التوضيح منذ البداية بأنه اذا كان لوك قد أبدى كل هذا التعارض مع نزعة السلطة المطلقة، فإن هذا لا يعني انه كان ديموقراطي النزعة.
> بعيداً من هذا، تبدو أفكار لوك «في الحكم المدني» أقرب الى ان تكون انسانوية وسطية، هو الذي ربما تكمن «مأثرته الكبرى» وفق مؤرخي فكره، في واقع انه عرف كيف «يجمع خيوط التفكير الرفيع الذي كان سائداً في عصره». ومهما يكن من أمر هنا، فإن لوك يعفينا من مشقة البحث طويلاً عن هذه الجذور الإنسانية في فكره، حيث نراه في السطور الأولى من البحث الأول في «في الحكم المدني» والمعنون «بحث في بعض المبادئ الفاسدة»، يبدأنا بالقول: «إن العبودية وضع زريّ شائن من أوضاع الإنسان لا يتفق قط مع طبع أمتنا السمح وبسالتها المشهورة، بحيث يصعب تصور رجل إنكليزي، ناهيك بجنتلمان انكليزي، ينهض للدفاع عنها». وهذا المبحث الأول، والذي لن يكون في نهاية الأمر سوى تمهيد للمبحث الثاني الأكثر أهمية منه بكثير، يبقى دائماً عند حدود الأفكار المبدئية العامة، في مجالات تتعلق بالعبودية والحرية الطبيعية، والسلطة الأبوية والسلطة الملكية، مروراً بحق آدم في السيادة من طريق خلق الله له، وحقه في ذلك على سبيل المنحة، ثم حقه في خضوع حواء له، ثم بحكم الأبوة، حيث يخلص المؤلف هنا الى التوغل في مسألة شائكة تتعلق بمبدأي الأبوة والملكية كمصدرين مزدوجين للسلطة، ليختتم هذا البحث متسائلاً: من هو الوريث اذاً؟ باعتبار هذا السؤال يشكل دائماً تلك «المشكلة الكبرى التي أقلقت البشر في جميع العصور وجرّت عليهم معظم الويلات التي أدت الى خراب المدن، وهلاك أهالي البلدان المختلفة وإقلاق سلام العالم». والحال ان صفحات هذا الفصل يمكن اعتبارها أهم ما في البحث، حيث نجد لوك يناقش فيها مختلف النظريات والتصورات التي حاولت بحث مسألة وراثة السلطة، بدءاً من الكتاب المقدس ووراثة الأنبياء وما الى ذلك، ما يشكل مرافعة في غاية الأهمية تتعلق بما يُفسَّر عادة حول مسألة الوراثة في الكتاب المقدس.
> وإذ ينهي لوك ذلك المبحث الأول على ذلك التعمق في مسألة التوريث كحق إلهي، ينتقل في المبحث الثاني، والأكثر راهنية بالنسبة اليه، الى «البحث في نشأة الحكم المدني الصحيح ومداه وغايته»، حيث يقدم لقارئه هنا، تلك المساهمة البديعة في الفكر السياسي، والتي يبدأها بالنص التالي الذي ننقله لأهميته كما هو: «لما كنا قد اثبتنا في المقالة السابقة ما يلي: أولاً، ان آدم لم يكن له، بناء على حق الإبوة الطبيعي، او الهبة الصريحة، أي سيادة على أولاده أو سلطة على العالم كما يزعم بعضهم – الإشارة هنا الى السير روبرت فيلمر، الذي كان من دعاة الحق الإلهي، والذي كان ساجله في شكل خاص في الصفحات السابقة -، ثانياً: إننا لو فرضنا انه كان له مثل هذه السلطة، فلم يكن لورثائه الحق بها، ثالثاً: ولو فرضنا انه كان لورثائه مثل هذا الحق فليس ثمة سنّة طبيعية او شريعة إلهية تنص على الوريث الشرعي في كل حال من الأحوال التي قد تنشأ، لذلك استحال تعيين صاحب الحق بالخلافة، ليتولى السلطة تعييناً ثابتاً، رابعاً: حتى ولو فرضنا ان ذلك قد تعيَّن، فلما كانت معرفة الفخذ الأكبر من سلالة آدم قد طمست طمساً تاماً منذ تلك الحقبة، لم يعد لعنصر من العناصر البشرية أو لأسرة من الأسر في العالم أدنى حق بالإدعاء انها تنتمي الى الفخذ الأكبر دون سواها وأن لها الحق بالميراث. ولما كنا قد أثبتنا كما يتراءى لنا، كل هذه المقدمات اثباتاً واضحاً، استحال على حكام العالم اليوم ان يجنوا ادنى نفع او يستمدوا أدنى مظهر من مظاهر السلطة من المصدر المزعوم لكل سلطة (سيادة آدم الشخصية وسلطته الأبوية). هكذا فمن شاء ان لا يفسح لنا مجال القول إن جميع حكومات الأرض إن هي إلا وليدة السطوة والعنف، وإن البشر انما يعيشون معاً كما تعيش البهائم حيث الغلبة للأقوى (...) فعليه أن يبحث عن منشأ آخر للحكم، ومصدر آخر للسلطة السياسية (...)».
> والحقيقة أن الفصول والصفحات التالية من هذا المبحث ليست سوى استعراض لكل ما يتعلق بتاريخ البحث عن السلطة السياسية وتاريخها، في الطور الطبيعي كما في حالة الحرب والعبودية والملكية والسلطة الأبوية، وصولاً الى البحث المعمق في المجتمع السياسي أو المدني ثم في مسألة نشوء المجتمعات السياسية، قبل التحوّل، في شكل يكاد يكون خلدونياً هنا، في «أغراض المجتمع السياسية والحكومية»، حيث يكون الغرض الرئيسي إذاً اتحاد الناس في دولة ما، والرضوخ لسلطة الحكومة للمحافظة على أملاكهم»، للوصول في النهاية الى أمان الشعب وسلامته وخيره العام. ولتأمين هذا، يستعرض لوك اشكال الدولة، التي كانت معروفة في زمنه، او التي كانت لا تزال تشكل نوعاً من اليوتوبيا. وضمن هذا الشكل يتناول المبحث المدى الذي يمكن ان تصل اليه السلطة التشريعية قبل ان تدرس العلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية والاتحادية للدولة، مع تحديد للحدود الدنيا والعليا من سلطات الدولة، قبل الانتقال الى صلاحيات الملكية الخاصة، مع توقف تالٍ، ولكن من الناحية القانونية، لا التاريخية هذه المرة، عند السلطة الأبوية والاستبدادية. للانتقال بعد ذلك الى مفهوم الغلبة، ليخلص وبعدما يمر على الاغتصاب والطغيان تباعاً، الى مسألة انحلال الحكومة، الذي يميزه بوضوح عن انحلال الحكم والنظام. ويختم قائلاً: ان السلطة التي يهبها كل فرد للمجتمع لدى التحاقه به، لا يمكن ان تؤول الى الفرد ثانية قط ما بقي المجتمع، بل تبقى ابداً في الجماعة، اذ لولا ذلك لم يكن ثمة جماعة او دولة، وهو ما يناقض الاتفاق الأصلي بين أفراد الشعب...
> ولد جون لوك (1632-1704) بمدينة ريختون بولاية سومرست بانكلترا، ابناً لمحامٍ مغمور. وهو أُرسل فتياً ليدرس في دير وستنمنستر، لينتقل وهو في العشرين الى كنيسة السيد المسيح في جامعة اكسفورد، حيث بعد دراسات دينية اصولية، انتخب عام 1658 باحثاً في كليته، ليُفصَل لأسباب سياسية عام 1684، بادئاً حياته كمفكر وفيلسوف، ويؤلف وسط مشاغله ومشاكله، عشرات الكتب لعل اشهرها كتبه حول «التسامح والتربية» و «عقلانية المسيحية» و «الإدراك الإنساني».
* ابراهيم العريس - الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق