بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 10 مايو 2016

صخب اللحظة وفراغها!

بين الصخب والفراغ أكثر من جدل وربما ايضا اكثر من علاقة يكشفها الاستبصار الحاد المسبوق برؤية واضحة للاشياء. الحديث هنا عن اللحظة العراقية الضاجة والمكتظة بشتى الاصوات لكنها تحت مجهر الفحص لا تنبئ بحل وشيك او مقاربة للحل على اقل تقدير. 
من السهل جدا إثارة فواعل الصخب خاصة وان شهية الكلام في الحقل السياسي صارت مفتوحة ومتاحة للجميع بدرجة متساوية، ولا علاقة لها بالخبرة او العمر وحتى الاختصاص. يتبرع اغلب الناس للحديث في السياسة سواء كانوا في حافلة للنقل العام او مجلس عزاء او وليمة لأية مناسبة اجتماعية تضم عددا من الاصدقاء والمعارف، حالما يبدأ احدهم يتدفق الآخرون وكأن الجميع على دراية بالموضوع!.
ومن اللافت في الحياة العراقية ان حديث السياسة صار من متطلبات التسلية اليومية!، والتداول الاجتماعي وتزجية الوقت. لا يهم ان نسأل عن حجم المجانية في الحوارات والاحاديث لكن من الممكن ان نتساءل عن استفحال الظاهرة مثلا، والى كم ستستمر.
يبدو ان تقاعس الساسة وعجزهم عن تقديم الحلول الناجعة والسريعة هو الذي يطيل أمر الحكاية في أفواه العامة بل هو ما يجعلها قابلة للتوالد والاستمرار، بمعنى ان مواطني الدول المستقرة لا حاجة لهم بمثل هذا الانشغال بل ربما يعدونه ثرثرة لا غير، خاصة وانهم منشغلون بحكم حيوية اقتصاد بلدانهم بأعمال مهنية اكثر جدوى للبلد و الافراد، ما يعني ان صخب اللحظة عراقيا ناتج من نواتج فراغها على صعيد المعنى و شحة العلاجات الحقيقية التي تحتاجها المشكلة.
البعض يتحدث عن مصالح الكتل والاحزاب باعتبارها العائق امام الحل، نعم .. ربما صحيح لكن ما المعيار الذي يحكم وطنية هذه المصالح وشرعيتها؟. يبدو هنا ان الحديث عن المعيار هو بحد ذاته مشكلة تستحق البحث، المعيار الذي نتوخاه منظومة ضوابط قانونية واخلاقية تضبط حدود وحركة المصلحة، بمعنى ان التطلع لمصلحة ما ليس سائبا وليس متروكا لهوى ورغبة الجماعة او الكتلة او الحزب، وفي حال تركها للأهواء فان النتيجة هذا الكم من الصخب غير المجدي وهذا الكم من الفراغ الذي تصفر فيه ريح الكارثة!. 
إن الدعوة لتقنين منظومة معايير مهنية في كل حقل ومفصل هي الضامن الوطني الاكيد لمصلحة الوطن والدولة، لكن علينا ان نتذكر ونعترف بأن الاطراف المستفيدة من غنائم الفوضى وغياب الدولة ستعد مثل هذا الكلام اعتداء على استحقاقاتها!. ترى هل الاستحقاق ان تأخذ كيفما تشاء ووقت ما تشاء بلا ضابط او تحديد يشذب الشراهة ويحارب السرقة والفساد؟.

- 2 -

في كل مرة نعود الى استذكار تجارب الامم والشعوب التي مرت بالخانق نفسه او ما يشبهه ليستعاد السؤال ذاته: كيف استطاعت تلك الامم والشعوب ان تتجاوز أزماتها وتخرج الى فسحة الحل؟ ويظهر في كل مراجعة ايضا ان هناك طبقة من الرواد والناشطين الذين تبنوا تصحيح مسار البوصلة، هؤلاء ما نتطلبهم اليوم عبر المطالبة بـ (تكنوقراط) غير مسيس وعابر لفكرة الغنيمة او (الحصة) بالمعنى الذي كرسه قاموس التداول السياسي في العراق، والمهم هنا هو ان نحافظ على هذا الفهم لوظيفة التكنوقراط دون ان يستثمره السياسيون مجددا لاعادة تدوير الازمة!.
بالطبع لهذه المفردة (تدوير) واقع حقيقي في الحياة العراقية الآن .. التدوير هو الاستعادة واعادة الانتاج بصيغ والفاظ اخرى. عندما تذم المحاصصة يتقدم التوازن بوصفه بديلا عن هذا المذموم لكن الحصيلة على الارض هي ذاتها، انقسام وتراضي يؤدي بالضرورة الى حماية المفسدين والتغطية عليهم مجددا بعد كل نوبة مطالبة بكشفهم ومحاسبتهم.
المطلوب بشكل اكيد إيقاف عجلة الالتفاف هذه والاصغاء للمطالب الحيوية بدقة دون مماطلة او تأجيل، وإيقاف الصخب غير المجدي للتحول نحو صناعة المعنى بدلا عن مداولة الفراغ او وهم المعنى اذا صح القول. كل هذا يتطلب الشروع بمخاض لحظة اكثر صفاء من ضبابية الوعود المجانية التي لا تضيف للمشكلة سوى المزيد من التعقيدات لأن الادوية الفاسدة والمغشوشة تدعم المرض من حيث تدعي انها تعالجه!. هذا التدوير هو المشكلة اليوم.
* جمال جاسم أمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق