بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 مايو 2016

في محاصرة الوطنية الفلسطينية اليوم

بعد التطورات التي عصفت بالبلاد العربية، وضعت الوطنية الداخلية لكل بلد أمام امتحان صمودها وقدرتها على البقاء، وقد أخفقت معظم الوطنيات العربية في الامتحان الذي تعرضت له، فبدا الإخفاق خراباً وحروباً تتوالى أخبارها على مرأى ومسمع من الجميع، وبـدا أيـضاً في صيـغة تـذمـر وتململ واضطرابات أمنية، والأهم، في صيغة أسئلة أعادت البحث في الوطنية وشرعياتها وكياناتها إلى نقاطها البدئية الأولى. على سبيل التعميم، لم تفز وطنية عربية بعينها بصفة التكون النهائي الناجز، المعطوف بدوره على استقرار مستدام تحكمه آليات مجتمعية عامة، لها أحكامها المعروفة، ولها مسالك استنباطها وتطويرها وتجديدها وممارستها، كما هي عليه الأوضاع في المجتمعـات الوطنـيـة التـي عـرفت طرقها إلى الهدوء والاستقرار.
ضمن هذه اللوحة العامة، تحضر الوطنية الفلسطينية بإشكالاتها وصعوباتها، وتحتفظ لنفسها بميزة عن سائر أقرانها، تتشكل من الفرادة في النشأة، ومن الصعوبة في التكوين والاستواء كصيغة ملموسة في الوجود، ومن المغالبة العنيدة بهدف الثبات والبقاء والاستمرار.
لقد فقدت الوطنية الفلسطينية أرض انبثاقها منذ وقت مبكر، فتمّ إجلاء شعبها بعد فترة صراع تداخل فيها العربي المحلي مع الاستعماري الخارجي، وبسبب من فقدان الأرض، أي الحرمان من العامل المكاني الذي هو إطار الاجتماع وبيئة التطور وجغرافيا توليد العلاقات والأطر الاجتماعية، لهذا السبب، تفرقت البنية الفلسطينية وتوزعت على أراضٍ وتجمعات واجتماعات خارجية، أي أنها صارت وطنية «رحالة» بين مسالك وطنيات أخرى، هي غير ناجزة كما سلف، وتحاول إنجازاً انطلاقاً من أوضاعها المحلية، وبالتفاعل مع ما يحيط بها عربياً وعالمياً. على صعيد عام، صارت الوطنية الفلسطينية المقتلعة من أرضها، عنصر توظيف من قبل الوطنيات العربية، التي كانت ما زالت قريبة العهد من مشاعرها القومية، والتي كانت ما زالت مقيمة ضمن صدى الثورة العربية الكبرى ضد السلطة العثمانية، والثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، هذا الصدى الذي اتسع مدى تردده بعد أن فازت الحركة الصهيونية بالجزء الأكبر من مساحة فلسطين. كان على الوطنية الفلسطينية أن تدفع ثمن إخراجها من بلادها، وأن تساهم أيضاً في دفع الأثمان ضمن مسارات الوطنيات الشقيقة التي أعلنت الوصل بها، وصلاً كان فادح الخسائر وما زال.
فقدان المكان والزمان الداخليين اللازمين للوطنية الفلسطينية، جعلا هذه الأخيرة متمحورة حول اسم البلد، وحول مغزى القضية، هكذا أعاد الفلسطينيون اشتقاق وجودهم الوطني من معادلة قضيتهم التي تختزن في طياتها أبعاداً متعددة، يتضافر فيها الإنساني والأخلاقي والسياسي، ويشد لحمتها النضالي الحركي الذي اتخذ أشكالاً كفاحية متنوعة جمعت بين الأساليب السلمية والممارسة القتالية.
إذن كانت خصوصية الوطنية الفلسطينية أنها نهضت حول اسم لقضية، وأنها اجتمعت في ظل علم في الشتات، وأنها بسبب من ذلك، وبناء على تجربة طويلة، كانت الخصوصية متحلقة حول مطلب الإستقلال، أو حول ما عرف باسم انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة. لقد صار الاستقلال بالشعب الفلسطيني، المؤطر إسمياً، والمجتمع تحت ظلال الألوان، مطلباً سيادياً وفعل حرية في مختلف المجالات، مما سيضع الشعب الناهض إلى مهماته الوطنية في مواجهة مع الوطنيات الناشئة، التي كانت تحاول استقلالاً لشخصياتها على طريقتها، ومما كانت له نتائجه المعروفة في الأردن وفي لبنان، ومع سورية ومصر والعراق وليبيا، ومع سائر الذين تدخلوا في شؤون الوطنية الفلسطينية، من موقع المؤازرة أو من موقع المنــاوأة... وغـالبـاً ما كانت المناوأة هي السمة الأولى والأبرز في العلاقة مع الاستقلالية الفلسطينية.
لقد عبرت الوطنية الفلسطينية عن ذاتها من خلال حركتها الشعبية العامة، في أوساط من بقي تحت الاحتلال داخل فلسطين، وفي أوساط التجمعات الشعبية الفلسطينية في الخارج، وقد كان نشوء حركة فتح، هو التعبير الأبرز عن الطموح إلى إعادة بناء الوطنية الفلسطينية واستنهاضها، وإلى تثبيت «كينونتها» على مسرح الصراع السياسي، الذي يدور باسم فلسطين وحولها. كانت فتح الأقرب إلى صورة شعبها، واستطاعت بسبب من تكوينها الشعبي هذا، أن تتصدر المسيرة الفلسطينية منذ 1965 وحتى تاريخه. لقد اجتمع لهذه الحركة أمران: الأول أنها الأقرب إلى نبض الشعب الفلسطيني، والثاني أنها الأصلب في الدفاع عن استقلاليته. لقد شكل هذان الأمران معادلة حصانة للمسيرة الفلسطينية، بقدر ما أعطيا الشرعية لحركة فتح، بتصدر عملية ابتكار الحصيلة الفلسطينية السياسية العامة وتصدر الدفاع عنها دائماً.
راهناً، تبدو الوطنية الفلسطينية محاصرة بأخطار عدة. الخطر الأول يجيء من جهة انسداد الأفق السياسي في وجه المطالب الفلسطينية الأساسية، وتتعاون على هذا الانسداد القوى الدولية الداعمة للعنصرية الإسرائيلية، والوضع العربي الذي تخلى عن مساندة فلسطين منذ وقت ليس بالقصير. أما الثاني فيأتي من جهة التدخل في الشؤون الفلسطينية من قبل «الثورية» في الخارج، ومن قبل بعض الطامحين إلى لعب أدوار سياسية. هذا التدخل كان سبباً في الانقسام الفلسطيني، وفي إقحام تعريفات دينية على تعريف الوطنية الفلسطينية الأصلي. أما الخطر الثالث، فأساسه في طريقة إدارة الصراع مع إسرائيل في هذه اللحظة التاريخية الصعبة.
إن الجمع بين السلطة والثورة، في الظرف الراهن، أمر شديد الصعوبة، وقد جرب الشعب الفلسطيني ذلك من خلال انتفاضتين وهبَّة السكاكين، كذلك فإن الصمود في ظل موازين القوى المحتلة الحالية، تعطي مهمة الحفاظ على الوحدة الفلسطينية الأولوية على ما عداها، والوحدة تعني الديموقراطية كما عرفها الفلسطينيون، مثلما تعني ابتكار الأساليب الصراعية الملائمة، التي تديم الضجيج الفلسطيني، قبل أن يستمرئ العالم والعرب عادة صمّ الآذان.

أحمد جابر -الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق