بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 15 مايو 2016

«مفيستو» لكلاوس مان: إنتهازيّ يصلح لكلّ الأزمنة

تبدأ القصة من حكاية حقيقية. أو بالأحرى من حكاية حقيقية عن شخص حقيقي كان في زمنه من كبار رجال التمثيل وفن المسرح في الحياة الفنية الألمانية، ثم حين وصل النازيون الى السلطة في ألمانيا، وجد أن من المناسب له ان ينضم إليهم، عن انتهازية لا عن اقتناع. وتحديداً لأنه كان واعياً منذ البداية ان ما تمثله النازية وكل القوميات المتعصبة التي تسير على هديها، يتناقض كلياً مع كل ما يمثله هو وما كان عليه تاريخه. ومن هنا، إنطلاقاً من تلك القلبة في حياته، كان ذلك العقد الفاوستي بينه وبين الشيطان النازي: العقد الذي بموجبه باع روحه وفنه لذلك الشيطان، مشترياً بالثمن راحة باله ونجاحه الفني، ما أوصله الى الذروة ايام هتلر في وقت كان فيه الفنانون والأدباء الشرفاء يُضطهدون ويُقتلون ويسلكون دروب المنفى.
> إذاً، هذه الحكاية الفاوستية والتي يمكن أن تحدث في أي مكان وأي زمان، كانت هي ما فتن كلاوس مان، الكاتب الألماني الذي مر في دنيانا هذه سريعاً واحترف الأدب باكراً على خطى ابيه (توماس) وعمه (هاينريش) اللذين كانا من كبار ادباء ألمانيا في الجيل السابق عليه، وكل منهما على طريقته. وكلاوس (الذي سيموت منتحراً عام 1949) كانت له هو الآخر طريقته وتقوم في استخدام اللغة الإبداعية لفضح النازية ونزولها، حتى بأبنائها الى جحيمهم. وللتعبير عن هذا، وجد كلاوس في حكاية الممثل المعروف في زمنه غوستاف غروندجنز (1899 - 1963) موضوعاً صالحاً... حتى من دون ان يسميه في روايته بل يكتفي بأن يعطيه اسماً ذا دلالة هو «مفيستو». وتقول حكاية هذا الممثل الذي كان في شبابه نجم النجوم في المسرح الأوروبي ومعروفاً جداً في ألمانيا وخارجها بالتالي، أنه قد بدأ حياته فناناً تقدمياً يقدم في مدن الأرياف ثم في المدن الكبرى أعمالاً مسرحية طليعية يكتبها ويخرجها ويمثلها بنفسه، كان أشهرها مسرحية تتحدث بالتحديد عن... ممثل انتهازي عاش في القرن التاسع عشر، وكان كما تقول المسرحية على الأقل، من الانتهازية حيث انه بعدما كان جمهورياً تقدمياً، أوصلته انتهازيته الى الارتماء في احضان السلطة، قبل ان ينتهي في زنازين شارل العاشر. والحال ان غروندجنز، حينما كتب هذه المسرحية ومثلها على عشرات الخشبات لم يكن يعرف أن مصيره هو سيكون على ذلك الشكل، وأن انتهازيته هو الآخر ستوصله الى أحضان هتلر. ومن هنا، لاحقاً، حين صار نازياً، وراح يسعى بعد هزيمة هتلر للتبرؤ من النازية، قال عنه خصومه انه «كتب سيرته مسبقاً بنفسه في مسرحيته المبكرة تلك».
> المهم ان كلاوس مان، الذي عرف ذلك الممثل عن قرب، بل كان ذات حقبة صديقاً له، اتخذه في روايته التي أعطاها عنواناً فرعياً هو «حكاية مسار مهني»، أنموذجاً لجمع كبير من فنانين وأدباء تحلقوا حول النازية حال انتصارها في شكل انتهازي، ما رسم مصيرهم وأحلّ بهم لعنة التاريخ. بالنسبة الى كلاوس مان، كان ذلك المصير متجسداً حقاً في «مفيستو»... ومن هنا حينما كان كلاوس يُسأل عما اذا كان حقاً كتب عمله عن حياة غروندجنز، كان يقول: «ابداً... روايتي رواية عامة تقدم أنموذجاً رمزياً، ولا تريد بالتحديد أن تتحدث عن فرد من الناس». لكن النقاد والقراء لم يروا ابداً رأيه... وهكذا، حتى بعد أكثر من ثلث قرن على كتابة الرواية (1936) أي في آخر السبعينات حينما حقق المجري لاسلو تسابو، فيلماً متميزاً انطلاقاً من هذه الرواية، تحدث الناس من جديد عن غروندجنز، باعتباره الشخص الحقيقي الذي يختفي خلف بطل الرواية هندريك هوفغن الملقب «مفيستو».> والحال أن لقب «مفيستو» إذ استخدمه كلاوس مان في روايته، ووجده يليق بهندريك، لم يكن آتياً من فراغ، بل إن المصادفة نفسها كانت جعلت هذا الأخير يُشتهر أكثر ما يُشتهر بلعب دور مفيستو على المسرح الألماني، في تقديم لمسرحية «فاوست» لغوته، منذ عام 1919. ثم أعاد تقديمه في شكل رسمي منذ عام 1922. غير أن البطل - كما كان حال غروندجنز - كان يريد أن يخرج العمل بنفسه... فلم يتح له ذلك حتى عام 1932 حينما اتيحت له الفرصة، فحقق المسرحية وقام بالدور... وظل يقوم به طوال حياته، فإذا بالدور يتلبسه تماماً.
> غير ان كلاوس مان، لم يشأ لشخصيته ان تكون مسطحة، وهكذا نراه يقدم لنا هندريك هوفغن شخصية مركبة وغريبة الأطوار: إنه منتمٍ الى النازيين تماماً، ويحظى برضا غورنغ وحمايته ويعتبر من أقطاب الحركة الفنية في الرايخ الثالث الى درجة أن هتلر بنفسه عينه مديراً لمسرح الدولة. وهكذا في لحظة ما، يجد الرجل نفسه متحالفاً مع النازيين، بعدما كان مناصراً للشيوعيين. غير أن هذا لم يكن كل شيء ولا كان الخاتمة. ذلك أن هوفغن، لم يتردد ذات مرة في ان يخبئ في بيته صديقاً له يهودياً كانت السلطات تطارده، كما انه سعى ذات يوم الى إخراج صديق آخر، شيوعي هذه المرة من السجن. ومن هنا، إذ ينكب مان على تحليل شخصية الرجل، يصل الى انه لم يكن صاحب ايّ قناعة ايديولوجية على الإطلاق: كان انساناً عادياً يسعى الى النجاح بأي ثمن، ومن هنا كانت قدرته الفائقة على التأقلم والتكيف. والطريف انه حينما يُعرض عليه أن يهرب الى الخارج إذ شعر ذات لحظة بأن العيون تراقبه، يسأل: الى اين ولماذا؟ فيأتيه الجواب: الى باريس، حيث الحرية. فيكون جوابه: الحرية! وما الذي يمكننا ان نفعل بهذه الحرية؟
> ولعل أجمل ما صوّر كلاوس مان بصدد هذه الشخصية هو أن صاحبها يبدو لنا صادقاً تماماً في دور الرجل المتلوّن المتقلب الذي يلعبه. هكذا هو في الحياة. وهكذا هو على خشبة المسرح: حينما يمثل يتقمص دوره تماماً وبكل قوة: ينفعل ويتألق في دور البطل، كما ينجح ويتألق في دور الخائن «بل انه، وفق وصف مان، يفرط في أداء دور الفاشل حتى يتمكن لاحقاً من أن يبقى على رغم الفشل». ولذلك حينما يصبح انخراطه المتورط في صفوف النازيين، فوق طاقته، يبدو لنا انه عارف تماماً انه قذر... وهكذا، إذ يدعوه سادته الجدد، النازيون، الى التعبير عن ولائه لهم، يكون خطابه عنيفاً، ولكن صادقاً، في مناصرة «منظومة قيم» نعرف نحن ويعرف هو انه يحتقرها كل الاحتقار. وسيده النازي ليس غبياً، اذ ها هو بعد خطابه يثني عليه وخصوصاً بسبب قدرته على «التمثيل».
> إن هذا الجانب من تحليل شخصية هندريك هوفغن، هو أجمل ما في رواية كلاوس مان هذه، اذ لولا هذا التحليل لبدت عادية مثل مئات الأعمال الفنية والأدبية التي تتحدث عن شخصية الانتهازي، وتحديداً شخصية المرء الذي يضطر الى ان يكون انتهازياً في ظروف صعبة. وبقي أن نذكر أن هذه الرواية إذ نشرها صاحبها في المنفى عام 1936، عادت ونُشرت للمرة الأولى في برلين الشرقية بعد وفاة مؤلفها، ثم عام 1963 أي في العام نفسه الذي مات فيه غوستاف غروندجنز، نشرت في برلين الغربية، ما جعل ابن هذا الأخير بالتبني، يقيم دعوى قضائية مطالباً بعدم نشرها، ما أخّر إنزالها الى الأسواق حتى عام 1971، بأمر من المحكمة. ولقد حولتها آريان منوشكين الى مسرحية عام 1979 قدمتها في باريس مع فرقتها «مسرح الشمس». أما الفيلم السينمائي المقتبس عنها فحُقّق عام 1980.
> وكلاوس مان (1906- 1949) هو كما قلنا ابن الكاتب الكبير توماس مان. وعمل في الصحافة والنقد المسرحي قبل أن يهرب عام 1933 الى امستردام حيث أصدر صحيفة «المجموعة». وفي عام 1936 توجه الى الولايات المتحدة حيث شارك في الحرب العالمية الثانية في صفوف الجيش الأميركي. وأثناء ذلك خاض العمل السياسي وكتب في الصحافة والأدب. ومن أشهر أعماله الى «مفيستو»، «البركان» و «الهروب من الحياة»، وسيرته الذاتية «نقطة تحول».
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق