بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 17 يونيو 2016

الحركة الإسلامية وحتمية المواجهة مع الحداثة والعقلانية

المفكّر الإسلاميّ المعاصر مُصاب بالذهول والشرود الفلسفيّ أمام الزحف الفكري والعملي للفكر الحداثي إلى عُقر العقل العربي والإسلامي، وهو إلى حدّ كبير عاجز عن تقديم البديل. فإمّا أنّه تابع مقلّد مستسلم أو منفعل متشنج ناقد بلا أي بديل أو خيار للهروب. و يبدو أن المشاريع العربية والإسلامية، وبالتحديد تلك التجارب النقدية الشاملة في المغرب العربي الهادفة إلى النقد والحل أخفقت في تحقيق غاياتها. قد يكون السبب في هذا الوضع المأسوي في صناعة الفلسفة البديلة للعرب والمسلمين ضعف المنهج الاجتهادي أو بالأحرى ضعف الاجتهاد في المنهج النقدي وفقدان الرؤية الفكرية الأصيلة من القرآن والسنة.
العقل الاعتزالي الإسلامي الجديد أعلن عجزه عن التمسّك بالمنطق الإسلامي الحضاري ودعا إلى الاستقالة والعلمانيّة. إنّ تجارب نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد اركون وعبدالله العروي وهشام جعيط وعبدالمجيد الشرفي والكثيرين الكثيرين من أمثالهم مقتصرة على مقاربات فكريّة بمناهج غربيّة لا أثر للذات الإسلاميّة والعربية فيها، حيث آليات القراءة والفهم والبيان تعمل وفقاً للمناهج الخارجية.
إن الحركة الإسلامية أكثر توجهات العالم الإسلامي قدرة على تحريك العمل الاجتهادي لاحتكاكها بالنص الشرعي من جهة وبالعمل الاجتماعي من جهة ثانية. ما ينبغي لنا تحريكه وتفعيله هو العمل الاجتهادي الداخلي والتعامل مع آليات الاستنباط والاجتهاد بروح التجديد والمعاصرة وبمنطق التأصيل وإعادة فهم التراث بطريقة فاعلة ومواكبة للحياة.
الاقتصار على سبّ الحداثة والخوف منها أو التخويف منها، ليس مجدياً لأن المادة الفكرية والفنية والثقافية اليوم هي من الجنس الحداثي، حيث بات الإنسان في ضوء طغيان الحداثة شيئاً حداثياً، ولم تعالج المشكلة محاولات ما بعد الحداثيين بل سببوا المزيد من الحيرة والشرود للعقل المسلم.
إن الحركات الإسلامية مشدودة باتجاه العمل الاجتماعي والسياسي وراغبة في ركوب موجة السلطة وبلوغ المواقع الحضارية التنظيمية أكثر من سعيها لبناء الإنسان المعاصر بعقيدة صالحة وعمل نافع عقلاني فعال. والمهمّة الأخيرة لها متطلبات كثيرة وهي تقتضي تجديد قراءة القرآن الكريم وإعمال أكبر قدر ممكن من الاجتهاد الحرّ في ضوئها وتخليص المصادر الشرعية والتراث الإسلامي من كل ما ألصق بها من الخارج وسبّب تشويهها وإسقاط فاعليّتها. وبقاء الجماعات الإسلامية خارج العمل الاجتهادي العميق سيُبقيها على تماسّ مع السطح من الفكر الإسلامي. والرهان على المؤسّسات التقليدية للفكر والفقه لبناء الموسوعات الفكرية الإسلامية حول الأنظمة الاجتماعية في ظلّ النظام التربوي والعلمي التقليدي فيها رهان غير رابح إلى إشعار آخر في أقل تقدير.
لست واثقاً مما أقول، لكنني سمعت أن الحركة الإسلامية التي لها قاعدة شعبيّة وتنظيمات جماهيرية لا تستطيع أن تفكر باختراق جدران الفهم التقليدي تحفظاً من ردود فعل الشارع وسخط الرأي العام. هي تنبذ المحاولات الاجتهادية الجريئة لقلقها على التأثير في موقعيّتها بين الشعب والجمهور. قيل لي إنّ الإخوان لم يتحمّلوا الشيخَ الغزالي بسبب اجتهاداته الصارمة في وجه السلفيين والإسلام التقليدي الذي يشكل طيفاً من أطياف الفكر الإخواني وتيّاراً من التيارات الداخلية فيها. ولكنني على يقين بأنّ أمثال الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي لو بقيا في داخل الأزهر لما بلغا هذا المستوى من التجديد الاجتهادي في فهم الإسلام، وهما في رقي وعيهما الاجتهادي مدينان بالمناخ الاجتماعي والسياسي الحر الذي أمّنَتْه لهما الجماعة.
إن الحداثة لن تزول بمواجهتها نقداً سلبياً ورفضاً قاطعاً وإقصاءً لها بالخطب والكلمات، أو من خلال التكفير لرموزها والتشنيع بحق أصحابها وحملة رسالتها، ولكن بالطرح البديل. وهذا الطرح يتطلب مرجعية فلسفية وفكرية أخرى، فيما لا تملك التوجهات الفكرية الإسلامية التي تتخذ من النص الشرعي الجامد والمشوب بالتأريخية والضعف وعدم التصنيف والترتيب والمنهجية أساساً ومنطلقاً لفهم الإسلام، أي بديل لمواجهتها ومواكبتها.
ظاهرة التحاق الآلاف من المسلمين في الغرب بالحركات الإرهابية في سورية وإبداء أعلى مستويات الحماس لقتل المسلمين وإباحة دماء النساء والأطفال والمدنيين تحت عناوين مذهبية أو سياسية تنمّ عن هروبهم الحقيقي من الحداثة وعدم القناعة بالمشاريع ما بعد الحداثية وفقدان البدائل الإسلامية الأخلاقية والعقلانية الصالحة لملء فراغهم العقيدي والروحي. هي كارثة كبيرة تعكس مدى ثقل رسالة الحركة الإسلامية في المواجهة الإيجابية مع الحداثة والسعي لتقديم منظومة إسلامية من المفاهيم وقيم السلوك تحقق للإنسان والمجتمعات المعاصرة ما فشلت في تأمينها المدارس الليبرالية والرأسمالية والمادية.
*محمد علي ميرزائي- رئيس مركز المصطفى للدراسات الاستراتيجية - الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق