بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 يونيو 2016

«أعمدة المجتمع» لجورج غروس: بؤر الفساد التي أنجبت النازية

منذ استلام النازيين مقدرات الشعب الألماني بعدما خدعوه طويلاً، بات العدد الأكبر من الأدباء والفنانين والمبدعين الألمان في حال عداء شامل مع النظام الجديد وراحوا يفضحونه في أعمالهم ويستفزونه، حتى تمكن، طبعاً، من القضاء عليهم في نهاية الأمر فيما كان يحضّر للقضاء على أوروبا كلها وبالتالي على العالم، في المذبحة التي حملت اسم الحرب العالمية الثانية. ولكن قبل ذلك، كانت قلة من الألمان فقط متنبهة الى ما سيحصل، وفي شكل خاص الى الجذور المحلية التي ستنتج النازية بعد قليل. كانت تلك القلة تعرف أن الجذور موجودة في السلطات التي كانت تحكم قبل مجيء النازية. في سلطات جمهورية فايمار مثلاً كما يقترح واحد من أفراد تلك القلة وهو الرسام جورج غروس. فمنذ العام 1926، وتحديداً في لوحة له عنوانها «أعمدة المجتمع» انتجها بين العديد من أعماله المشابهة الأخرى، وفي وقت كان الألمان لا يزالون يعتقدون فيه أن الكارثة تحل عليهم من الخارج تالية لهزيمتهم في الحرب العالمية الأولى ولمعاهدة فرساي المذلة، قال غروس: أبداً... الكارثة تأتي من الداخل، من فساد الطبقات السياسية والثقافية والعسكرية. من فساد النخب المسيطرة على فايمار وعماها ودون كيشوتيتها وغبائها وفراغ رؤوسها.
> والحقيقة أن هذا هو بالتحديد ما تقوله تلك اللوحة المبكرة لغروس. اللوحة التي تبدو بالأحرى - كما معظم أعمال هذا الفنان الذي كان يؤمن بأن الفن إنما يُنتَج كي يراه الناس ويؤثر فيهم، ومن هنا كان لا يحبذ فن الصالونات بقدر ما يحبذ الفن الذي يصل من طريق الصحافة والمنشورات والملصقات. فما الذي يطالعنا في هذه اللوحة بالتحدبد؟ في المقام الأول مناخها القاتم الكابوسي وألوانها العتمة التي تقول لنا أول ما تقول أن لا شيء هنا على ما يرام. ولكن الأهم من هذا، تقول ما هو أكثر من خلال شخصياتها المتجمعة في مكان رمزي واحد لكن كل واحدة منها تنظر في اتجاه مختلف من دون أدنى اهتمام بمناخ الكارثة المتوقعة. فرجل الأعمال في مقدمة اللوحة يحمل كأسه وسيفه فيما تطلع من دماغه الخاوي صورة فارس يجابه طواحين الهواء - ربما كما يفعل هو في دونكيشوتية مضحكة مبكية - ووراءه رجل السياسة الذي تطلع من دماغه الخاوي هو الآخر دخنة تشبه جزمة عسكرية تتماشى مع ذلك الضابط الممتشق سيفه وعلى قميصه صليب جرماني كرمز للرايخ الثاني ويحمل بيده اليسرى مسدساً يوجهه الى ناحية أخرى هي غير تلك التي يبدو الخطر آتيا منها، فيما ثمة جندي وراءه يحمل زجاجة لا ندري ما هي. أما في الجانب الآخر من اللوحة فيطالعنا تباعاً رجل دين - أو لعله رجل قضاء - يحاول أن يطلق بركاته - أو لعلها أحكامه - وهو مغمض العينين عاجز عن أن يرى شيئاً، فيما يقف أمامه في مقدمة الصورة ذاك الذي يبدو أسوأ الجميع وأوضحهم مكانة وعجزاً عن فعل أي شيء ولو على الطريقة الدونكيشوتية: الصحافي رمز المثقف الذي اعتمر، على شكل قبعة طاسة براز مقلوبة على دماغه.
> بالنسبة الى جورج غروس، تلكم هي أعمدة مجتمع فايمار، وتلكم هم الفئات المسؤولة عما يحدث، وبالتالي، عما سيحدث. عن الحريق المندلع بالفعل في الزاوية اليسارية العليا للوحة إنما من دون أن ينظر اليه أحد. ومن الواضح هنا أن لوحة غروس هذه، أتت يومها لتفوق في إدانتها لتلك الطبقة ما فعله أي فنان أو مبدع آخر في ألمانيا ما - قبل - الكارثة. ومع هذا قد لا يكون منطقياً اعتبار جورج غروس واحداً من كبار الفنانين الذين عرفهم القرن العشرون، وحتى مكانته في التيارات الفنية المختلفة التي انتمى اليها، في هذه المرحلة أو تلك، يمكن النقاش حولها. وبالتالي قد لا يكون من قبيل الصدفة أنه لا يُكتشف، من جديد، إلا في كل مرة يتم فيها البحث في علاقة الفن بالسياسة وفي كل مرة يجري فيها الحديث عن رد فعل الفن التشكيلي ازاء الأحداث الكبرى، وعن العلاقة بين الفن التشكيلي وفن الكاريكاتور. وذلك لأن جورج غروس كان بارزاً في هذه المجالات الثلاثة أكثر مما كان بارزاً في فن انتاج اللوحة وفي الحضور في المعارض، أو حتى في التيارات.
> على عكس العديد من أقرانه من الفنانين الألمان الذين عاشوا خلال المرحلة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانوا في معظمهم من أبناء أسر بورجوازية مرفهة، كان جورج غروس المولود في برلين العام 1893 إبناً لأسرة فقيرة. من هنا عاش في طفولته حياة بؤس منعته حتى من استكمال تعليمه أو من دراسة الفن التشكيلي كما يجب، رغم بروز مواهبه باكراً. لذلك التحق بالعمل لدى رسام من المنتمين الى تيار «اليوغندستيل» الذي كان على الموضة في ذلك الحين، وكان يسعى الى تكريس دور ألماني في تيارات الفن الحديث. ولقد ساعده عمله عند ذلك الرسام على اكتساب بعض المال الذي مكنه من الانتساب الى أكاديمية درسدن الملكية، حيث اهتم بصورة خاصة بدراسة فنون اليابان وأعمال دومييه وتولوز-لوتريك وغويا. والحقيقة أن تأثير هؤلاء عليه ظل ماثلاً في أعماله حتى أيامه الأخيرة، وهو تأثير أعطى لأعماله على الدوام طابع فن الملصق، ووجّهه في شكل خاص نحو دراسة وممارسة فن الرسم الكاريكاتوري. غير أنه رغم تميز رسومه الأولى، عجز عن نشرها في أي من صحف تلك المرحلة، ما قاده الى ارتياد المقاهي وممارسة حياة بوهيمية كان خلالها يبيع الرسوم الكاريكاتورية للمارة.
> وهكذا تمكن، مرة أخرى، من جمع مبلغ صغير من المال ساعده على السفر الى باريس في ربيع 1913 حيث كان يريد تمضية سنوات عدة. غير أن الحرب العالمية الأولى فاجأته فإذا به يُجنّد في القوات الألمانية ويصطدم مباشرة بمآسي الحرب. وهو من خلال رصده لتلك المآسي ولحياة الجنود ومخاوفهم، تمكن من تحقيق تلك السلسلة من الرسوم ذات الطابع الكاريكاتوري التي عبرت عن أهوال الحرب، وجعلت له، حين راحت تنشر، مكانة كبرى بوصفه فناناً مناهضاً للحرب يعلن مناهضته تلك في رسوم تمتلئ بجثث الجنود والأيدي المبتورة، وتكشف التفاوت الطبقي بين الجنود وضباطهم وتصرخ منادية بعبثية الحروب، كل الحروب. ولقد تمكن غروس في تلك الآونة من نشر العديد من رسومه في الصحف ما لفت اليه أنظار السلطات فاعتقلته في مأوى للجنود العُصابيين، معتقدة أن ذلك الاعتقال سيردعه عن الاستمرار في تحقيق رسومه، فاذا به يواصل راسماً هذه المرة أنواعاً جديدة من الجثث (جثث الجنود الأحياء) ومن أهوال الحرب.
> وانتهت الحرب وكان غروس قد بدأ يصيب من الشهرة ما سهل عليه عيشه بعد ذلك، بل أسس مع كارل اينشتاين مجلة هزلية قاسية، ثم انضم الى تيار الدادائيين على غرار زميله أوتو ديكس، الذي ارتبط اسمه به بعد ذلك. وعلى رغم اتهام السلطات له بالخيانة والطعن في ذات صاحب السلطة العليا، فإنه عرف دائماً كيف يفلت وكيف يواصل رسومه التي اختلط فيها الإجتماعي بالسياسي، فاذا بها تصبح معبرة عن آلام واخفاقات جيل بأسره عن الألمانيين، من دون أن تعتبر أعمالاً متحفية أساسية. وهو استمرأ تلك اللعبة فاذا به يحول كل طاقاته لتحقيق رسوم مناهضة للروح العسكرية ولكل نزعة شوفينية قومية. ومن هنا اعتبر غروس الرسام الأكثر هزءاً من الواقع الاجتماعي خلال السنوات المجنونة، والمشاكس الأول في الفن الألماني. ومن هنا كان من الطبيعي له، حين وصل النازيون الى السلطة، أن يهرب من المانيا، فتوجه الى الولايات المتحدة ونال الجنسية الأميركية، لكنه في اللحظة نفسها انتهى كفنان، فقد تبين له بوضوح أن فنه لم يعد يساوي شيئاً، إذ انقطع عن جذوره ومصادر إلهامه. ومن هنا ظلت تلح عليه فكرة العودة الى المانيا، حتى حققها أخيراً في 1959 معتقداً أنه سيستعيد مكانته وقدراته الفنية، لكنه سرعان ما رحل في العام نفسه منسياً أول الأمر قبل أن يُعاد اكتشافه مع الفورة الالمانية فيعتبر واحداً من كبار الفنانين الذين أثّروا على رسامي الكاريكاتور والملصق في القرن العشرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق