بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2016

يوم استعان الموارنة بمذهب أبي حنيفة لصناعة تاريخهم

ليس هناك في تاريخ الفكرة الكيانية اللبنانية من ساهم في الإنعطاف نحوها بمثل ما قام به الحلبي عبد الله قراعلي (1672 ـ 1742)، وليس هناك من يُفتَقَد بتجاهل أثره لعنصر أساسي من عناصر تكوين مفهوم الطائفة الدينية ـ السياسية في جبل لبنان، ومن ثم في لبنان الموسّع، قدر هذا الراهب، الذي انتقل شاباً من حلب إلى جبل لبنان، وبرز فيه كمطران ومؤسس لرهبنة. 
بعضاً من التذكير بالمنعطف الذي شكّلته سيرة قراعلي وأعماله تكتسب اليوم بالتحديد راهنية خاصة، مع عودة التناقض الإسلامي المسيحي، وتحديداً الماروني السني، في لبنان إلى الواجهة، بعد أن تسرّع الناظرون إلى الأوضاع اللبنانية، وتوقعوا تراجعه نسبة إلى التناقض السني الشيعي، وفي ظل حالة موت سريري مستفحلة تعيشها «الجمهورية الثانية»، يترافق فيها التعطيل العام مع انكماش هستيري داخل كل طائفة، ومع تصدّع داخلي متفاوت من طائفة إلى أخرى في ذات الوقت. 
لعب قراعلي دوراً مهماً في مطلع القرن الثامن عشر بترويج مصطلح «لبنان»، ونقله من دلالة ترميز مكان إلى ترميز مكان لجماعة، هو القادم من خارج الجبل، والمتحدّر منه في أصوله العائلية.
فالرهبانية التي كانت تدعو نفسها بالحلبية، أو تدعوها كذلك باقي الرهبانيات الوافدة أو البلدية العاملة على الساحة المارونية، لن تلبث بمبادرة من هذا الراهب تحديداً بتسمية نفسها «الرهبانية اللبنانية المارونية» وتعليل قراعلي جاء كالتالي: «في هذه السنة، 1706، تحسّن عندي أن أدعو رهبانيتنا باسم الرهبنة اللبنانية وتلقيب الرهبان باللبنانيين نسبة إلى جبل لبنان كما يسمّى رهبان الكرمل بالكرمليين، وسبب ذلك اني عرفت بالرمز ان بعض الأخوة لم يستحسنوا اسم الرهبنة الحلبية لأنه اسم مشترك مع سكان حلب، ولما دخلت سنة 1706 طلبت من السيد البطريرك ان يسمينا باللبنانيين، فارتضى وصار يكاتبنا به».
هؤلاء الرهبان الحلبيون الموارنة اذاً هم أول من تسمّى باللبنانيين، وقبل أن تشيع التسمية بين أبناء الجبل، وخصوصاً موارنته، وهذه المحاكاة للكرمليين الذين تسموا كذلك تيمنا بجبل الكرمل الوارد ذكره، كلبنان، في العهد القديم، ذات دلالة.
طبعاً، لم يكن بمقدور قراعلي ولا في حسبانه أن يساهم في تشكيل نوع من الهوية الوطنية الابتدائية التي تتجاوز نطاق رهبنته، لكن تسميته الرهبنة باللبنانية ستمهّد لتسمية المجمع المقدس الماروني لعام 1736 بـ»اللبناني» وهو المجمع التأسيسي بامتياز للمارونية ككنيسة أكثر تنظيماً لهرميتها ومنخرطة عضوياً، وليس فقط «عن بعد»، في اطار الكثلكة. هذا المجمع بالتحديد سيكرّس الدور الفقهي لعبد الله قراعلي. 
اذا ما عدنا لكتاب برنار هيبرجي «مسيحيو الشرق الأدنى في زمن الاصلاح الكاثوليكي» (الصادرة طبعته الاولى عام 1994)، وهو أفضل ما كتب في هذا المضمار على الاطلاق حتى اليوم، نجد مفارقة طبعت الجماعات المسيحية في التاريخ الإسلامي: فبعد الفتح، صارت هذه الجماعات أكثر اعتماداً في أمورها الزمنية على الإكليروس، ما دامت السلطة الزمنية الامبراطورية المسيحية قد انهارت، لكن هذا كان نظرياً فقط، لأنّ المؤسسات الكنسية في ظلّ الحكم الإسلامي كانت تتميز بدرجة عالية من التخلّع والضعف. في الجبل اللبناني مثلا، يوم هاجر اليه قراعلي، ليتبوأ بعد سنوات منصب مطران عجلتون، كان يمسك بالقضاء التحكيمي المشايخ الموارنة من آل الخازن، وفي القضايا الجرمية الأمراء الشهابيون السنّة، ولا يتبقى الشيء الكثير للبطريرك والإكليروس.
القرن الثامن عشر هو الذي سوف يشهد تطوراً للوظيفة القضائية للمطارنة في اطار حكم الأمراء الشهابيين السنّة للجبل وقد ازدادوا ميلاً للتنصر بشكل أو بآخر.
بالتوازي، فان من سيكتب «القانون المدني» للموارنة، إلى جانب القانون الكنسي، لن يستقيه فقط من التأثيرات الواردة من الغرب ومن تزايد الاشراف البابوي على أحوال كاثوليك الشرق. عبد الله قراعلي هو الذي سيضع مذهباً فقهياً للموارنة، في كتابين أساسين هما «مختصر الشريعة» و»الفتاوى الخيرية»، وسيكون المصدر الأساسي لما دوّنه هو مراجع المذهب الفقهي الرسمي للدولة العثمانية، أي المذهب الحنفي.
في مطلع القرن الثامن عشر استقل الموارنة بذاتية خاصة أكثر من ذي قبل، وبدأت الفكرة الوطنية المارو ـ لبنانية طريقها، بالتسمية، نحو الوعي، بمبادرة من راهب حلبي. وفي مطلع القرن نفسه، قام هذا الراهب نفسه، بتنظيم أوضاع الموارنة القضائية، والتأسيس لمؤسسة افتاء خاصة بهم، على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان، مذهب الدولة العثمانية المعتمد، وهو ما سيقرّه بعد ذلك بسنوات، المجمع الماروني. لئن تميز الموارنة بين مسيحيي الشرق بتحدر نسبة كبيرة من عائلاتهم من أصول شيعية ونصيرية واسماعيلية ودرزية (مع حالات سنية، كآل شهاب)، فإنّ الاستعانة بمذهب الامام أبو حنيفة كانت المدخل إلى التنظيم المستقل بذاته للكنيسة، أي منحها السلطة الزمنية للافتاء والقضاء بالفعل، بعد أن كانت مقرة لها نظرياً، في القاعدة العثمانية العامة للتعاطي مع الجماعات الكتابية (ما يسمى «نظام الملل). 
من دون هذه الاستعانة بالفقه المهيمن، الفقه الحنفي، لم يكن للاكليروس أن يقتدر في مواجهة هيمنة المشايخ على القضاء بين الناس. 
ولعلّ لحظة فاصلة، وذات دلالة في هذا الاطار، كانت تجرؤ الحلبي قراعلي نفسه على شيخ من آل الخازن عام 1717، والقاء الحرم على هذا المقاطعجي واتهامه بالسحر والشعوذة، في حادثة ارتج لها الجبل. 
لم يكن لجوء قراعلي للفقه الحنفي عن عبث، لأن الناس قد لجأت اليه عملياً قبله، سيما أنّه أقل تعسّفاً من الأوضاع الاعتباطية أو المبهمة التي كانت قائمة ضمن الجماعات المسيحية قبل ورشة القوننة المستعينة بالفقه الحنفي نفسه داخلها، خصوصاً في القانون التجاري والمعاملات والمواريث، كان هناك ميل متعاظم لدى المسيحيين للجوء إلى المحاكم الإسلامية، وكان هذا في أحيان كثيرة يؤدي لتغيير دينهم واعتناقهم الإسلام. كي لا يكون هناك داع «معاملاتي» لاعتناق الإسلام، اعتمد قراعلي على المذهب الحنفي لتقوية الشوكة القضائية للكنيسة المارونية!
بالتوازي، تحوّل مطران عجلتون قراعلي في ذلك الوقت إلى مقصد للدروز والسنّة من أهل الجبل أيضاً في الافتاء والقضاء. 
ليس هناك تاريخ داخلي مسيحي صرف لأي طائفة عاشت تحت الحكم الإسلامي لقرون، ولم يكن التأثر برانياً فقط، ومرتبطاً بكيفية تعايشها مع أحكام أهل الذمة، ومع أحوال الدولة القائمة، بل كان تأثراً داخلياً وجدلياً بامتياز. 
أما «نظام الملل» الذي توحي فكرته بأن كل ملة كتابية كانت مستقلة بذاتها في أحوالها الدينية والقضائية الخاصة بها، فكان ـ كما يؤكد هيبرجي، صورة مثالية مشتهاة طورتها الجماعات عن نفسها تباعاً، وكلما اقتربت من القرن التاسع عشر. «نظام الملل» لم يكن له هذا الوجود المعاشي الراسخ الذي نعتقد، وتأخرت مأسسته الجدية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وحينها كان من مصلحة كل طائفة تلفيق تاريخها للجزم بأنه موجود منذ قرون مديدة، وبأنها تمتلك تقليداً مزمناً من الشرعية الهرمية المركزية داخلها، في مواجهة النزعات الطاردة، ومع قفزة نوعية للملل المسيحية البلقانية الذي كان اختراع الاستقلالية الذاتية للملة فيها توطئة لتحويل الملة نفسها إلى بدايات أمة قومية، يونانية أو بلغارية أو رومانية أو صربية.
وطبعاً، كانت هذه الحال متعذرة بالنسبة لأكثر ملة مسيحية في الشرق الأدنى اقتربت فيها من شهوة التشكل القومي البلقانية هذه، أي الموارنة، ويعود هذا في مكان ما، إلى تقوي الاكليروس فيها بالمذهب الحنفي في القرن الثامن عشر، قبل أن تنشب داخل الموارنة وداخل الجماعات الانجيلية في القرن التاسع عشر مشكلة أخرى، مشكلة كيفية اعداد ترجمة عربية حديثة للكتاب المقدس، اذ برز تيار يقول بأن أي ترجمة صلبة للكتاب، عليها أن تستعين بالقرآن كمرجعية اصطلاحية ولغوية ودلالية، وبرز في المقابل من اصطدم بهذا الطرح. 
يقول مهدي عامل في كتابه «في الدولة الطائفية» انه «لا معنى للكلام على تاريخ للطائفية إذا لم تكن الطائفية محددة بدقة». لكن هذا الكلام غير دقيق في موضع ما، لأن الطائفية كانت أيضاً تاريخاً متشعباً من الانزياحات والتبديلات، تاريخاً متعرجاً من انعدام الدقة.
كان مصطلح «طائفة» شائعاً بالعربية كما التركية ويستخدم للحديث عن أي جماعة، دينية أو صوفية أو مهنية أو جبائية، وانعدام دقته لعب دوراً في شيوعه، وفي ملموسيته أكثر من فكرة «الملة» قبل سطوعها في منتصف القرن التاسع عشر وتراجعها في آخره، لحساب القوميات.
عبد الله قراعلي بالتحديد مساهم أساسي في صناعة تاريخ الإزاحات هذا: تاريخ محاكاة الكرمليين لاستحداث تسمية الرهبان اللبنانيين، وهو الآتي من حلب، وتاريخ الاستعانة بالمذهب الحنفي لصناعة المارونية ككنيسة كاثوليكية محلية تخضع اكثر فاكثر للرقابة البابوية وتجارب الارساليات.
*وسام سعادة-القدس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق