بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2016

«بروفسور أونرات» لهاينريش مان: صورة ما لانحطاط المجتمع

هناك ما لا يقل عن ستة أفلام غربية وشرقية اقتبست موضوعها من رواية «بروفسور أونرات» للكاتب الألماني هاينريش مان. وغالباً ما حملت الأفلام عنواناً لم يكن أصلاً من وضع الكاتب، وهو «الملاك الأزرق». ونعرف أن الاقتباس الأشهر كان في العام 1929 في ألمانيا نفسها في
ذلك الفيلم الذي حققه جوزف فون ستيرنبرغ من بطولة إميل جاننغز ومارلين ديتريش، ولا يزال يعتبر الى اليوم واحداً من أبدع الأفلام في تاريخ السينما. وفي العام 1959 حقق إدوارد ديمترك اقتباساً جديداً في هوليوود من تمثيل كورت جورغنز وبيرت إنكلند. أما الاقتباسات الباقية فهي إما هندية أو مصرية أو برازيلية. ونقول هذا لنؤكد فقط على «كوزموبوليتية» هذا العمل الأدبي الذي وضعه شقيق الكاتب توماس مان والذي عُرف بكتاباته الأكثر شعبية من كتابات أخيه، وبكونه أكثر التزاماً ضد النازية من هذا الأخير الى درجة أنه كثيراً ما أخذ على ذلك الأخ الأشهر سكوته في البدايات عن جرائم النازيين. وهؤلاء ردوا «التحية» لهاينريش بأكثر منها إذ كان بين أوائل الكتاب الذين أحرقت كتبهم واتُّهم أدبهم بالإنحطاط. وطبعاً كانت رواية «بروفسور أونرات» في مقدمة تلك الكتب.
> و «بروفسور أونرات» هي الرواية التي كتبها هاينريش مان في العام 1905. وكان قد بدأ يُتّضح في ذلك الحين أن هاينريش لم يكن ككاتب في مستوى يقل عن مستوى أخيه توماس، بل إن هناك بين النقاد والمؤرخين من يعتبره أكثر أهمية منه، بل يرون أن اتجاهاته الفكرية كانت أكثر وضوحاً من اتجاهات صاحب «الجبل السحري» وخصوصاً، في رأي أولئك، لأن الشخصيات لديه كانت شخصيات من لحم ودم، بينما غلب الرمز وسطوة الفكرة على رسم توماس مان لشخصياته. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هاينريش مان لم يكن - على الشهرة الفائقة لـ «بروفسور أونرات» -، مؤلف كتاب واحد، بل كان غزير الإنتاج متنوعه، واضح الرؤية. كل ما في الأمر ان السينما حين استولت على «البروفسور أونرات» ظلمت مبدعه. من هنا اعتبر هاينريش مان نفسه، في المقام الأول ضحية الفن السابع، وإن اعتبره كثيرون ضحية شهرة أخيه.
> بالنسبة إلى الملايين الذين شاهدوا الفيلم الأساس (فيلم إميل جاننغز ومارلين ديتريش) المقتبس من الرواية، أو أياً من الأفلام الأخرى التي أشرنا إليها، لا شك في أن وسعهم القول إنهم يعرفون الرواية جيداً، وذلك لأن النقل السينمائي لها جاء غالباً فائق الأمانة لأحداثها، حيث أن اسلوب الكاتب، وإن لم تكن السينما قد ولدت بعد بالشكل الروائي المتطور المبني على سيناريو بالمعنى العلمي والفني للكلمة، جاء سينمائياً بامتياز. وهو الأسلوب ذاته الذي سيحافظ عليه في رواياته الأخرى ومن أبرزها «رعية الإمبراطور» وثلاثية «بلاد القيصر»، أسلوب يشدد على نقل صورة الحدث وتفاصيل العلاقات ذهنياً الى القارئ. ولا شك في أن هذا ما يميّز «بروفسور أونرات» قبل أي شيء آخر. فالحدث هنا بسيط: يتحدث عن مراهقين في مدرسة ثانوية يلاحظ استاذهم - البروفسور أونرات - أن ثمة ما يشغلهم خلال الصف وما يكشف أنهم ساهون تماماً عن الدراسة. وهكذا يبدأ التحقيق ليكتشف السر بهدف معالجة الأمر. ويقوده التحقيق إلى كاباريه «الملاك الأزرق» الذي يكتشف ان المراهقين يترددون عليه وقد وقعوا في شباك فنانة الملهى «روزا فروليك» الى درجة ان لوهمان وهو أشد التلامذة عداء للبروفسور ومجابهة له، يترك في الصف قصيدة تتغزل بروزا... وهنا قبل ان نتابع لا بد من الإشارة الى أن تلامذة البوفسور لم يكونوا مولعين به. ولم يكونوا يكنّنون له أدنى احترام الى درجة انهم حولوا اسمه «رات» الى «أونرات» - وتعني قمامة -، ومن هنا حين جابه الفنانة لائماً إياها على «إغواء» الشبان، تجابهه هذه بقوة وتعنت إذ كانت تعرف مشكلته معهم، ويدور بين البروفسور والفنانة حوار ينتهي بأن تحاول إغواءه هو الآخر مقدّمة إليه مشروباً فيما هو «يأمرها» بأن تترك طلابه في حالهم وتغادر البلدة.
> عند صباح اليوم التالي وفي اللقاء بين الأستاذ وتلامذته يسود نوع من الهدوء الغامض. فهو الآن يخشى من أن يكون التلامذة عرفوا بأمر لقائه روزا فيحوّلون ذلك الى سخرية قاتلة، فيما هم يخشون أن يكون قد قرر كتابة تقرير بالأمر الى الناظر. وعند المساء يقصد البروفسور روزا من جديد محاولاً هذه المرة، في عرفه، أن يتابع ثنيها عن تشجيع تلاميذه وقبول هداياهم، لكنها تفاجئه بأنها اعتادت ان ترد لهم كل ما يقدمونه اليها. المهم أن ذلك اللقاء الثاني، يخلق علاقة بين الإثنين، وأن تلك العلاقة سوف ينتهي بها الأمر الى تدمير الرجل. فهو وقع الآن في هوى الفنانة وبات طوع بنانها، ينفق عليها ويتبعها ككلب الحراسة. تغضبه فيسامحها ويُذل أمامها. لقد غيّر الهيام صاحبنا وحوّله الى رجل مفلس دنيء لا يتحرك إلا بأمر من روزا. وانفضح أمره ليصبح مدار سخرية الجميع ولا سيما تلاميذه الذين راحوا يراقبون ذلك كله بين شامت به ومشفق عليه، فيما تتراكم عليه الديون والحكايات ويطرد من عمله. غير أن هذا كله لا يمنعه من الزواج من روزا وقد تحوّل الى عبد لها... كما الى ابنتها التي لم يكتشف وجودها إلا متأخراً. في النهاية ينهار تماماً فلا يجد من يعينه سوى تلميذه السابق لوهمان الذي يقترح سد ديون روزا. لكن «أونرات» يرفض وينتهي أمره وأمر روزا الى السجن، كصورة لانحطاط مجتمع بأسره كانت دراسته تشغل بال هاينريش مان في ذلك الوقت.
> ولد هاينريش مان في لوبيك في ألمانيا في العام 1871، وهو الشقيق الأكبر لتوماس. ولقد بدأ الكتابة والنشر باكراً، لكنه في المراحل الأولى ظل مرتبطا بأبيه، تاجر الحبوب المزدهر المقيم والعامل في برلين. ولكن بعد رحيل الأب في العام 1891، استقل هاينريش بنفسه اقتصادياً، وانخرط في النضال الاشتراكي جاعلاً من أدبه وسيلة للتعبير عن ذلك الانخراط، ولا سيما في تلك النصوص، الروائية وغير الروائية، التي راح يصوّر فيها، منذ وقت مبكر، انحطاط المجتمع الألماني الرفيع في زمن ويلهلم الثاني. ولقد كانت انطلاقته الأولى والأساسية في كتاب أصدره في العام 1900 بعنوان «في بلاد النميمة» اعتبر حين صدوره أشبه ببيان اجتماعي. ومنذ ذلك الكتاب لم يتوقف هاينريش مان عن التعاطي النقدي مع شؤون المجتمع، بحيث أنه في كتبه الأخيرة، راح يتوقف مطولاً عند الجشع إلى الثراء والجاه والسلطة في ألمانيا ذلك الزمن.
> أما الأقوى بين أعمال ذلك الكاتب، الذي راح منذ وفاة والده يعيش معظم أيامه في الخارج، لا سيما في فرنسا التي صار جزءاً من حياتها الثقافية في مرحلة من المراحل، الى جانب «بروفسور أونرات»، فهو ثلاثيته المعنونة «ثلاثية بلد القيصر»، كتبها خلال عقد من الزمن امتد بين العام 1917 حين أصدر الجزء الأول «الفقير» والعام 1925 حين أصدر الجزء الأخير «الزعيم»، وبينهما الجزء الثاني «المواطن» (1918). في تلك الرواية التي لم يمكنها طولها ومحلية موضوعها من أن تنال حظها من الشهرة والمكانة، رسم هاينريش مان صورة أدبية رائعة للأنماط الاجتماعية التي ينتجها المجتمع التسلطي، لكن انخراط هاينريش مان في الكتابة الناقدة، جعله يتجاوز الكتابة الروائية لينشر كتباً ودراسات تهاجم صلف السلطة وخضوع المواطنين.
> بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1918) أصبح هاينريش مان ناطقاً أساسياً باسم النزعات الديموقراطية الراديكالية، حيث نشر العديد من الكتب السياسية مثل «السلطة والإنسان» (1919) و»الروح والعقل» (1931). وقاده هذا كله إلى أن يسلك درب المنفى عند استيلاء النازيين على السلطة في العام 1933. وهو منذ ذلك الحين أمضى الشطر الأكبر من سنواته متنقلاً بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وعبّر في كتاب له، عنوانه «هنري الرابع» أصدره في جزءين في العامين 1935 و1938 عن نظرته إلى الحكم المثالي وإلى أمثل الأساليب التي بها يمكن ممارسة السلطة في شكل يتسم بنزعة إنسانية. ورحل هاينريش مان عن عالمنا في العام 1950 في سانتا مونيكا في الولايات المتحدة الأميركية، قبل خمس سنوات من رحيل أخيه توماس في العام 1955.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق