بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 28 أغسطس 2016

«أبناء الشمس» لماكسيم غوركي: طبقات النيّات الحسنة وتشعّبات الواقع

لسبب لم يبد واضحاً بما فيه الكفاية حينها حلّ خلال الفترة بين 1900 و1905، نوع من التفاؤل المفاجئ في حياة الكاتب الروسي الثوري والمشاكس، ماكسيم غوركي. وهو تفاؤل بدا في ذلك الحين متناقضاً مع الصورة التي يمكن المرء أن يخرج بها من مشاهدته مسرحية «الحضيض» التي كتبها غوركي وقدمها من على خشبة المسرح عام 1902. ومع هذا إذا قرأنا «الحضيض» على ضوء مزاجية غوركي وتطلعاته السياسية التي كانت لا تخفى على أحد وقتها، قد نجد فيها قدراً كبيراً من التفاؤل الضمني. وهذا التفاؤل نفسه سيعود الكاتب ويعبر عنه في شكل أكبر في مسرحية تالية له هي «أبناء الشمس» كتبها عام 1905، في ظروف استثنائية، لا بأس من الوقوف عندها هنا. فإثر ثورة 1905 المجهضة في روسيا، والتي كان غوركي من الضالعين فيها، اعتقلت الشرطة الكاتب الشاب، بين الحزبيين والمناضلين الآخرين الذين اعتقلوا، وأودع لفترة في سجن قلعة بطرس وبولس الرهيب. صحيح أن فترة الاعتقال لم تطل، إذ سرعان ما صدر عفو من القيصر شمل غوركي بين الذين شملهم، لكن هذا كان لديه، داخل سجنه من الوقت ما كفاه كي يكتب مسرحية جديدة له، أراد من خلالها أن يعبر - وفي شكل شديد الخطية كما سنرى - عن نظرته إلى التوزع الطبقي في المجتمع ودور المثقفين الواعين المتنورين في العمل الثوري وما إلى ذلك. واللافت أن غوركي الذي تناهى إلى علمه أنه سيطلق سراحه عما قريب، عجّل خلال الأيام السبعة الأخيرة من وجوده في المعتقل وكتب المسرحية في أيام قليلة، لينجزها نهائياً قبل ساعات من عودته إلى الحياة الطبيعية. وبعد مغادرته السجن، حاول غوركي، مستنداً إلى مناخ ليبرالي نسبي ساد في روسيا غداة فشل الثورة واكتشاف السلطات أن الأحزاب الثورية ليست بالقوة التي كانت تعتقد، حاول أن يقدم المسرحية على الفور، لكن السلطات سارعت إلى منعها لما رأت ما تتضمنه من معان ثورية. غير أن المنع لم يطل، إذ عادت السلطات وسمحت بالعرض يوم 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1905 في «مسرح الفن» في موسكو، حيث أدى الممثلان الشهيران فاسيلي كاشالوف وأولغا كنيبر (زوجة أنطون تشيكوف في الحياة) الدورين الرئيسين. وقد تميز العرض الأول بمناخ شديد التوتر، بل إن أحداث الفصل الثالث، والتي تتحدث عن أحداث ثورية عنيفة تسود خارج الأمكنة التي تدور فيها الحوارات، كانت من الواقعية والعنف إذ تحدث عنها المتحاورون إلى درجة أن الجمهور في الصالة اعتقد أن هناك في الواقع تظاهرات وأحداثاً بالغة الجدية تدور بالفعل خارج الصالة وهو ما لم يكن صحيحاً بالطبع، إلى حد اضطر معه الممثل كاشالوف إلى أن يوقف العرض متوجهاً إلى الجمهور بقوله إن شخصيته في المسرحية هي التي يستهدفها هجوم الرعاع، لا جمهور الصالة. وبهذا فقط هدأت الصالة واستؤنف العرض.
> من ناحية مبدئية تبدو أحداث «أبناء الشمس» شديدة التعقيد. ولكن في الحقيقة ليست هذه الأحداث ما يهم كثيراً هنا. المهم هنا هو الدراسة العميقة التي قام بها غوركي للشخصيات وقد حرص على أن يرسم توزّعها الطبقي، رابطاً كل شخصية، من ناحية السلوك والرؤى والأخلاقيات، بالتعبير المعهود عن طبقتها. بل إن هذا التوزع الطبقي الذي رسمه غوركي ضمن إطار نزعة طبيعية تكاد تكون بيولوجية، بدا من الخطية إلى درجة أن المرء أمام هذه المسرحية يخيّل إليه أنه أمام درس ماركسي في علم الاجتماع. ويبدأ هذا منذ عنوان المسرحية حيث أن تعبير «أبناء الشمس» يطلق هناك على فئات من أبناء الأرستقراطية المتنورة التي نالت علماً ووعياً مكّناها من الانفتاح على العالم وعلى ثقافة الغرب عموماً. إن هؤلاء هم أبناء الشرائح المثقفة المرفهة، الذين يعبَّر عنهم في المسرحية من خلال شخصية البروفسور بروتاسوف، المثالي الراقي وصاحب النيات الصادقة، الذي يتابع أحداث العالم وثقافته، إنما من دون أن يعرف أبداً ما الذي يحدث لدى الطبقات الأخرى من الشعب، لا سيما الطبقة الدنيا التي تعاني ما تعانيه. إن حياة هذه الطبقات الدنيا مجهولة تماماً لدى «أبناء الشمس»، بل ينظر إليها بروتاسوف وأمثاله، إذا ما أحسوا بوجودها، على أنها خزان التخلف والرجعية في المجتمع. إننا هنا أشبه بأن نكون بعدما زرنا، تحت قيادة غوركي، حثالة المجتمع في مسرحية «الحضيض» انتقلنا إلى الجانب الآخر من السور الاجتماعي العظيم لنزور الطبقة الأخرى، المثقفة الراقية والتي قد تمضي وقتها في الدفاع عن الحثالة، إنما من دون أن يخطر في بالها أن لها وجوداً.
> لكن غوركي إذ يرسم هذه الصورة لجناحي المجتمع هذين، لا ينسى أن يضع بينهما طبقة أخرى، هي الطبقة الوسطى، تتمثل بشخصيات عدة من بينها الوصولي جيغور، الذي تقوم الرابطة بينه وبين بروتاسوف، من خلال معاملة الأول لزوجته في شكل سيء، ما يجعلها تهرع إلى بيت بروتاسوف الذي يسرّي عنها ببعض الكلمات الطيبة، ثم يستخدم معسول الكلام لتهدئة الزوج. لكن هذا الأخير، وعلى رغم صنيع بروتاسوف، الطيب معه، ما إن ينتشر داء الكوليرا في المدينة حتى يتهم بروتاسوف - الطبيب - بأنه هو السبب في نشر المرض بسبب علمه وطبه الآتين من الخارج. وانطلاقاً من هذا المنطق يؤلب جيغور الجموع ضد بروتاسوف فتحاول مهاجمة بيته رفضاً له ولتقدُّميته وعلمه وطبه. وإذ تعجز جموع الرعاع عن النيل من بروتاسوف، يحاول جيغور قتله بيده. ومن خلال هذا الجانب في المسرحية ندرك أن أبناء الشمس يعيشون على رغم نياتهم الطيبة كلها، في عزلة عن الآخرين، لا سيما منهم أهل الظلمات. ولعل غوركي يبدو واضحاً حين يقول لنا، على رغم تعاطفه وتعاطفنا مع بروتاسوف، إن هذا يعيش كلياً خارج إطار الحياة اليومية وهموم البشر. لذا، حتى وإن كان مناضلاً، فإن نضاله لا هدف حقيقياً له ولا معنى... ناهيك بأنه أبداً لا يبدو مهتماً بمعرفة كيف ينظر إليه الآخرون.
> غير أن الطبقة الوسطى في هذا المجتمع لا تتمثل فقط بجيغور وزوجته، بل هناك أيضاً شخصيات عدة أخرى يستخدمها غوركي تنويعات على هذه الطبقة الوسطى. ومن هذه الشخصيات الطبيب البيطري تشيبورني، وفييرا شقيقة بروتاسوف نفسه. إن هاتين الشخصيتين، حتى وإن كانتا نظرياً تنتميان إلى «أبناء الشمس» تعيشان الواقع كما هو، وهذا أمر يشدد عليه غوركي بقوة، لا سيما إذ يركز على شخصية فييرا التي تبدو لنا هائمة بالشعب تحبه حباً حقيقياً، ولا تحذو حذو «أبناء الشمس» الآخرين في معاملة أبناء الشعب بلا مبالاة... وهي، لأنها تفضل أن تمضي حياتها في خدمة «أبناء الأرض» ترفض حب الطبيب البيطري لها قائلة إنها لا يمكنها أن تكون سعيدة إن كان الشعب تعيساً. ويتسبب هذا الرفض في انتحار الطبيب، الذي يموت فيما تكتشف فييرا أنها كانت تحبه حقاً وأنه كان في إمكانها أن تحبه وتحب الشعب في آن معاً!
> قد لا نكون في حاجة هنا إلى القول إن هذه المسرحية التي بدت من جانب غوركي نوعاً من المراجعة الفكرية لبعض الحماسة الثورية السابقة، حققت نجاحاً كبيراً لدى عرضها... لكن نجاحها كان سياسياً فكرياً أكثر منه فنياً، ولعل هذا ينطبق على أعمال ماكسيم غوركي (1868 - 1936) كلها، هذا الكاتب الذي لا شك في أنه، وهو الكاتب العظيم والموهوب منذ إطلالته على عالم الأدب، ضحى بالكثير من مواهبه من أجل خدمة الأهداف الثورية، ثم الحزبية التي كان يؤمن بها. ولعل هذه التضحية، هي التي حالت بينه وبين أن يعطي لنفسه في كتابة القصص أو المسرحيات، حرية، كان يصر على قمعها في داخله، ما جعله لا يرقى - مع أنه كان قادراً على ذلك - إلى مستوى كبار أسلافه من أدباء روسيا العظماء في القرن التاسع عشر.
*ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق