بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 21 أغسطس 2016

«ظلّ رجل سلاح» لأوكاسي: بطل رغم أنفه

في ذلك الوقت المبكر، لم يكن قد قام بعد سوء التفاهم الذي سيحدث نوعاً من الشقاق بين الكاتب الإيرلندي شون أوكاسي، ومواطنيه كما سنرى بعد قليل. كانت لا تزال لمسرحياته الأولى تلك النكهة النضالية والثورية «اليقينية» التي أحب ذلك الجمهور أن يتلمّسها لديه. في ذلك الوقت، كتب أوكاسي وقدّم على خشبة «آبي ثياتر» في دبلن، تلك المسرحية التي ستصبح الحلقة الأولى من ثلاثيته الدبلنية، ليضيف إليها في السنوات الثلاث التالية جزءين
آخرين هما «جونو والطاووس» (1934) و»المحراث والنجوم» (1936)، علماً أن هذه الأخيرة ستُعتبر دائماً أشهر مسرحياته وأقواها، لكنها ستكون العمل الذي فجّر علاقته بالثورة الإيرلندية، إذ تساءل فيها في شكل جدي وعنيد عما إذا كان يمكن ثورة أن تكون حقيقية ومظفرة تحت قيادة الكنيسة الكاثوليكية؟ مهما يكن، أيام المسرحية الأولى في الثلاثية والتي نحن في صددها هنا، كان هذا كله لا يزال بعيداً. فـ»ظلّ رجل سلاح» كانت لا تزال محيّرة لا يمكن سبر كل أسئلتها بالوضوح الذي سيظهر متدرّجاً في الجزءين التاليين من الثلاثية.
> تدور أحداث هذه المسرحية في مبنى فقير تسكن فيه مجموعة من الإيرلنديين في العام 1920، يقع في هيلجوي سكوير في دبلن. أما الشخصية المحورية فالشاعر دونال دافورين الذي توجّه الى هناك ليقيم لدى صديقه شيمس شيلدز. وبسبب غموض الشاعر ونظراته الحائرة، سيعتقد معظم سكان البناية أنه مقاتل في جيش التحرير لجأ الى بيت صديقه مختبئاً لأن القوات الإنكليزية تطارده. وهو لا يسعى على أية حال الى تكذيب ذلك الاعتقاد، لكن لسبب لا علاقة له بالثورة أو بالنضال، على رغم أنه ليس ضدهما. فالسبب هو أن الحسناء المقيمة في البناية، ميني باول، إذ اعتقدته بدورها مناضلاً، راحت تنظر إليه نظرات إعجاب راقته وبدأ يتصرف كأنه بالفعل ثوري هارب وغامض. غير أن الحقيقة هي أن شريك شيمس في عمله، المدعو السيد ماغواير، كان خبأ بالفعل في الشقة كمية من القنابل كان الثوري الحقيقي أتى بها الى هناك قبل أن يُقتل في عملية. وكانت تلك العملية من القوة بحيث نبهت السلطات الإنكليزية الى أن ثمة شيئاً ما يحدث في البناية فطوّقتها، معلنة حال الطوارئ في الحي. أما دونال وشيمس فإنهما لم يعرفا بوجود كيس القنابل، إلا حين وصل الجنود الى المكان. فذهلا. لكن الحسناء ميني سارعت الى أخذ كيس القنابل لتخفيه في غرفتها. وهكذا إذ فتش الجنود شقة شيمس ودونال لم يعثروا على شيء. لكنهم، حتى وإن لم يكونوا قد عثروا على أي شيء حتى في غرفة ميني التي يبدو أنها معتادة على مثل تلك الأعمال النضالية، شكّوا في أمرها واصطحبوها معهم... فما كان منها إلا أن حاولت الهرب، وهنا أطلق الجنود النار عليها مردينها قتيلة.
> عند عروضها الأولى، كان من الصعب على الجمهور أن يفهم الأبعاد الحقيقية التي شاء أوكاسي أن يضعها في ثنايا هذه المسرحية. لكن لاحقاً، وربما في شكل أكثر منطقية، على ضوء التفسيرات التي كانت لهذه المسرحية ومن ثم للجزءين التاليين، تبيّن ذلك الانتقاد الخفي الذي حمّله أوكاسي فيها لنوع تبسيطي ساذج من العمل الثوري وتفاعُل البسطاء معه، وصولاً الى التصعيد في هذا الموقف مسرحية بعد أخرى. أما في ذلك الحين، فقد حققت المسرحية نجاحاً فنياً و... وطنياً أيضاً. وربما كان وطنياً أكثر منه فنيّاً ذلك الحين.
> فقد لا يكون شون أوكاسي واحداً من الذين أحدثوا ثورة مسرحية حقيقية في القرن العشرين، حيث أن كتّاباً من طينة بريخت وشو وبيكيت يمكنهم أن يزعموا لأنفسهم بالطبع مثل هذه المكانة. صحيح أن أوكاسي كتب مسرحيات مهمة وجميلة، وحرص على أن تكون واقعية مسرحه مسلية وغير روتينية وبعيدة من أن تستجيب للقوالب الجاهزة المتحدثة عن «البطل الإيجابي» و»الانتصارات الحتمية»، غير أن مسرحه لا يكتسب أهميته من عظمته بقدر ما يكتسبها من مجال آخر: سوء التفاهم الصحي الذي يقوم بين الفنان وجمهوره. فإذا نظرنا الى الأمر من هذه الزاوية، سنجد أن أوكاسي يوفر لنا مادة تأمل جيدة ويعطينا أجوبة مهمة عن العديد من التساؤلات التي يمكن أن تطرح حول الفن و»دوره» الثوري أو الاجتماعي.
> هنا لا بد أن نشير الى أن شين أوكاسي قد يكون منسيّاً بعض الشيء في أيامنا هذه، وهو نسيان قد يكون مبرراً من وجهة نظر معينة، لكنه لن يكون مبرراً على الإطلاق من وجهة نظر أخرى. فهذا الكاتب الإيرلندي الكبير الذي وُلد في العام 1880 وتوفي عام 1964، عرف في حياته من التقلّب والقلق ما انعكس على مسرحه، فأفقده في بعض اللحظات بريقه وأفقده في لحظات أخرى حتى مبرر وجوده. واللافت في سيرة أوكاسي أنه أتى الى المسرح من غمرة النضال النقابي والوطني لا العكس، أي أنه لم يكن مثقفاً آمن بالثورة، بل ثورياً رأى في المسرح وسيلة يوصل بها أفكاره، ثم رأى فيه وسيلة تعبر عن قلقه وأسئلته، فإذا بهذا القلق وبتلك الأسئلة تقوده الى التساؤل حول ماضيه الثوري نفسه والتشكيك في كل ما قام به.
> هذا الجانب من سيرة شون أوكاسي الفكرية، يفضل الثوريون الإيرلنديون اليوم تجاهله مكتفين بأن ينظروا إليه على أنه الكاتب الذي وضع مسرحه في خدمة القضية. وهو نوع من المصالحة لم ينبعث إلا بعد رحيل الكاتب في العام 1964. قبل ذلك، كان الصدام العنيف قام بين أوكاسي وجمهوره الإيرلندي، خصوصاً منذ العرض الأول لمسرحيته الأشهر «المحراث والنجوم» في العام 1926. قبل ذلك كان شون أوكاسي، الذي بدأ حياته مناضلاً نقابياً وساهم في تأسيس أول جيش لتحرير إيرلندا، في انتفاضة عيد الفصح في العام 1916، كما كان كتب مسرحيات نالت رضا الجمهور وحماسته، وكتب ييتس عن واحدة منها بأن «مسرح أوكاسي يشكل أملاً جديداً للمسرح نفسه». لكن بعد ذلك كانت «المحراث والنجوم» وفيها عبّر أوكاسي عن قلقه متسائلاً هل يمكن حقاً، والى الأبد، الوقوف الى جانب ثورة تقودها كنيسة إيرلندية رجعية؟ كان هذا السؤال مطروحاً بخجل وفقط في فصلين من فصول المسرحية التي تمجد، في نهاية الأمر، ثورة الإيرلنديين الساعية الى الحصول على الحرية والاستقلال. لكن التساؤل، ولو كان بسيطاً، كان كافياً لجعل الجمهور الإيرلندي يثور على كاتبه المفضل. فالجمهور الإيرلندي هو، بعد كل شيء، مثل أي جمهور آخر لا يريد من كاتبه المفضل أكثر من أن يمجد له ماضيه، ويعده بمستقبل زاه. وهنا يقع سوء التفاهم الذي أشرنا إليه، حين يرى الفنان أن له مهمة أخرى غير إبداء اليقين والإيمان بأن كل ما كائن هو خير ما يكون.
> ترى ألا يذكّرنا هذا، والى حد بعيد، بخيبات الأمل التي اعتملت لدى عشرات المثقفين الروس الذين وقفوا مع ثورة 1917، فإذا بها تحاول أن تجعل منهم مجرد ناطقين باسمها ضاربة الصفح عن أحلامهم ومشاكستهم الدائمة؟ بالنسبة الى هؤلاء، كان الانتحار والنفي والإعدام والصمت نهايتهم. اما أوكاسي فقد اكتفى بالنزوح الى لندن (بلد الأعداء) وعاش هناك بقية عمره، يكتب وينتقد الإنكليز ويساند الثورة الإيرلندية ولكن... من بعيد.
> من نافل القول إن سمعة أوكاسي تضاءلت لدى أبناء جلدته الإيرلنديين منذ نزوحه، أما هو فواصل معركته ولكن ضد الفاشية هذه المرة، إذ كتب خلال الحرب العالمية الثانية مسرحيات تتصدى لاستشراء الذهنية الفاشية في أوروبا، وكذلك واصل معركته ضد الجشع الرأسمالي، وبدأ يُعرف على نطاق واسع وتُترجم أعماله الى لغات عدة وتقدم في مسارح العالم. أما هو فلم تفارقه مرارته من الإيرلنديين أبداً، وظل يقول لهم إن ثورتهم الحقيقية في سبيل الحرية والاستقلال لن تكون منطقية إلا حين تنزع الكنيسة الكاثوليكية يدها عنها. وكما قلنا، لم يصالح الإيرلنديون أوكاسي إلا بعد رحيله في العام 1964، فاعتبروه كاتبهم المسرحي الكبير، فيما ظل العالم ينظر إليه على أنه صورة لسوء التفاهم الذي قام طوال قرننا العشرين هذا بين الفنانين ومجتمعاتهم، تستوي في ذلك المجتمعات الثورية والمجتمعات المحافظة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق