بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

تاريخ المسيحية ليس «سلّماً تطوّرياً» لتفسير تاريخ المسلمين

ما زال الفضاء الدراسي والبحثي المقارِن، بين التاريخ الديني والحضاري لكل من المسيحية والإسلام، ولكل من دار الإسلام ودار المسيحية، كما الفضاء الدراسي لنزعات التداخل، بل وحركات التخليط، بين المسيحية والإسلام (وهذه ازدهرت خصوصاً في الأناضول والبلقان بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر وتركت أثرها على بدايات التشكل العثماني)، فضاءين مُنَحيين إلى أبعد حد، في الرائج من كلام سياسي وفكر يومي. هذا رغم التراكم النوعي الحاصل في هذين الفضاءين.
ضريبة هذا الاحجام عن الاستفادة من هذا التراكم المعرفي بقاء الحوارية المعاصرة الإسلامية المسيحية أسيرة إما للمجاملات حول «الحقيقة الواحدة» التي تقال بطرائق شتى، وهذه مجاملات لا تلبث أن تنقلب إلى نقيضها (حقيقة واحدة محرّفة في دين ومصانة في آخر)، وإما لامتداح الاختلاف بشكل مغال، بما يجعله اختلافاً بين جوهرين ميتافيزيقيين لا مشترك بينهما إلا بشكل برّاني وعارض، وإما لتقديم أحد الدينين كـ»سلّم تطوّري» للدين الآخر، أو لأتباع الديانة الأخرى.
وعلى المنوال الأخير، يجري قياس المراحل التي مرّ بها الإسلام كدين وحضارة، منذ خروجه من شبه جزيرة العرب، على المراحل التي مرّت بها المسيحية كدين وحضارة، في محاولة لحصر الإشكالية بكيفية اللحاق والاقتداء. ثمة عندها من يقول باستحالة الوصول إلى الغاية نفسها (العقلنة، العلمنة، التسامح، الحداثة، حرية الفرد، حقوق الانسان). وثمة من يقول بجواز ذلك، أو حتميته ولو طال الأمد. العبرة في جميع الحالات أن المسيحية سبقت الإسلام بستة قرون، وهي بالتالي تنبئ له كدين وحضارة، بمراحل التطور التي يتوجب عليه أن يجتازها، أو يقتبس منها، «كالناظر في المرآة». ورغم أنّها احالة تتكرر على الشفاه والأوراق يكاد يكون منذ قرنين بلا انقطاع، ما زال هناك من يشعر أنه فطن حين يردّدها.
لئن كان هناك «مانع تفكير» ميبّس للبصيرة، فهو المسلك الذي يفرض المسيحية وتاريخها، كمرآة للنظر إلى واقع ومستقبل الإسلام والمسلمين، تشاؤماً أو تفاؤلا. في وقت طلّق فيه تاريخ الأديان المعاصر نهائياً مقاربة «السلّم التطوّري» التي كانت إلى قرن خلا تصنّف الأديان حسب حقباتها كمتدرّجة في بعدها ثم قربها من العقلانية الحديثة، أو بالأحرى «مطواعيتها» لهذه الأخيرة، لا يزال هناك من يريد الاستعانة ببدعة «السلّم التطوّري» هذه لرؤية «كم أنجز المسلمون» من الطريق التي سلكها قبلهم النصارى (واليهود).
المفارقة أنّه في عصر رواج بدعة «السلّم التطوري» غربياً في تاريخ الأديان، أي في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، وهو سلّم يختصر في أن كل دين أكثر يخطو خطوة أكثر مطواعية للعقلانية من الذي سبقه، وجد أهل هذه البدعة نفسهم في حرج، كون الإسلام المحمدي يأتي بعد المسيحية. قلة فقط أقرّت لأجل ذلك بامتياز العقلانية للإسلام في مقابل المسيحية. الآخرون حاولوا «تأويل السلّم التطوّري» هذا، بمحاولة ارجاع الإسلام إلى ما قبله، باعتباره اما يهودية محوّرة، واما مسيحية محرّفة، واما خلطة يهومسيحية، او مانوية معدّلة، أو الاستناد على المدونات الإسلامية التأسيسية نفسها، التي تقدّم الإسلام بما هو دين جميع الأنبياء منذ آدم، وبما هو دين الفطرة في الانسان، لتصنيفه كـ»دين طبيعي»، وبالتالي كدين سابق على «السلّم التطوّري» بالنسبة لأصحاب السلبية المسبقة من الإسلام والمسلمين، أو كغاية للسلّم التطوّري، مقارن في الجوهر لـ»ربوبية عصر الأنوار».
طبعاً، عرفت كتابة «تاريخ الفرق» في الإسلام شكلاً معيّناً من «السلّم التطوّري» لقياس الملل والنحل على بعضها البعض، لكن ذلك بقي جزئياً ونسبياً إلى حد كبير، مثلما أن التصورات الإسلامية حول «الخاتمية» و»التمامية» لم تتبلور بين ليلة وضحاها، ولا هي انحصرت بتحديد أوحد ونهائي، ولا هي من الأساس ربطت نفسها بحجية «السلّم التطوّري». بالعكس، كل فكرة الخاتمية والتمامية اتمام سيرورة نبوية تمتد من «آدم حتى محمد».
«السلّم التطوّري» لم يعد بزاوية النظر الصالحة لدراسة أي دين أو تجربة دينية أو روحية في تاريخ العالم وحاضر الكوكب المفارقة، أنّ كل التوترات الإسلامية – الغربية لم تدفع المسلمين تحديداً، بمن فيهم الإسلاميون، لفك الارتباط مع هذا «السلّم» المعيق للنظر والفعل. ما زال «السلّم التطوّري» هذا ملاذ البليد حين لا يكون أرعن، والأرعن حين لا يكون بليداً.
وهكذا، تجد تحديداً في المنطقة العربية، عند النخب الثقافية المسلمة، وكذلك عند النخب الثقافية من «انصاف المسلمين»، اي مسيحيي العالم الإسلامي، اوهاما كثيرة حول المراحل التي مرّ بها تاريخ المسيحية. تصور مغلوط حول العصر الوسيط الغربي، اذ يجري التعامل معه كعصر ظلمات، و«استبداد كنسي». وتصور مغلوط حول العصور الحديثة، التي يجري التعامل معها بغائية «فصل الديني عن الدنيوي» بشكل تراكمي، لا نكهة فيه ولا مفارقة.
لم يكن العصر الوسيط عصر ظلمات فقط. لم يكن «الاستبداد الكنسي» هذا شاملاً وصلباً، ولكم حطّمته مرجعية لها هالة دينية هي الأخرى، وان تكن «علمانية»، هي مرجعية الامبراطور المقدس. أما التراكم المعرفي والفكري فحدث لألف عام ضمن أديرة هذه الكنيسة وليس في أي مكان آخر. في المقابل، وكما يسعفنا المؤرخ الفرنسي المعمّر الفذ جان دليمو، بقي هذا العصر الوسيط «محدود التنصير» في أوروبا. «المسحنة الشاملة»، حدثت في بدايات الأزمنة الحديثة فقط. أما أعمال مؤرخ آخر، فقدناه العام الماضي، كريستوفر بايلي، فتظهر لنا أنه، ان كان من قرن اتسع فيه نفوذ الكنيسة الكاثوليكية أوروبياً وغربياً أكثر من سواه، فهو القرن التاسع عشر.
رفض اعتماد «السلّم التطوّري» كمرآة للنظر في تاريخ الإسلام وفقاً لمراحل قطعتها المسيحية يتكامل اذاً مع تنبيه للحاجة إلى الاعتناء عربياً، عند المسلمين كما عند مسلمي الشرق، بتاريخ المسيحية، وتاريخ «دار المسيحية» خصوصاً، اذ كانت المسيحية الأوروبية الميديفالية تعرف أيضاً بمداها الجغرافي الروحي، «الكريستندوم»، قبل ان يتراجع هذا المفهوم مع انبثاق المفهومين الحديثين لـ«أوروبا» و«الغرب».
فهم ما مرّت به «دار المسيحية» يعطي أبعاداً جديدة لدراسة ماضي المسلمين وحاضرهم، انما ليس أبداً باختزال المقارنة بالمسالك المتهافتة، وخصوصاً «السلّم التطوّري» ومعزوفة الاقتداء واللحاق.
٭ كاتب لبناني - وسام سعادة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق