بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 15 أبريل 2015

غونتر غراس… من الحرب إلى نوبل للآداب إلى مساندة الفلسطينيين

«قد يحدث لك الشيء نفسه: تتدفق الطلبات من جميع الجهات راجية أن أحتفي، بكلمات أو بنص طويل، تلك التواريخ التي شهدت منذ خمسين سنة كيف انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام لا مشروط لألمانيا أولاً ولليابان ثانياً. وبما أنني لا أحب أن تكون ردود فعلي تلبية لطلبات متعلقة بأحداث الساعة، فقد ارتأيت أن أكتب إليك، لأنك مثلي: فأنت من الجيل الذي عاش الحرب في سن الطفولة والمراهقة، ودمغتنا منذ أبكر سني الصبا.
كان علينا نحن الاثنين، إدراك أن ما بعد الحرب قد لا ينتهي أبداً. ومن عقد إلى عقد، أصبحنا نحن الاثنين، ندرك أكثر بأن الجرائم التي ارتكبها الألمان واليابانيون تلقي ظلالا بعيدة المدى».
من رسالة طويلة كتبها الروائي والشاعر الألماني غونتر غراس إلى الروائي الياباني كينزابرو- أوي، تحدث فيها عن الحرب والمأساة التي عاشها هو والشعب الألماني، وما جرته عليهم من ويلات حتى سنوات قريبة، وبدوره كتب كينزابرو- أوي رسالة جوابية لغراس، مؤكداً أن الحرب أينما كانت هي نفسها، ونتائجها واحدة، في حال كنت غالباً أو مغلوباً.
غراس الذي رحل عن عالمنا يوم أمس الاثنين عن عمر يناهز السابعة والثمانين عاماً، عاش حياته كلها وهو ينبذ الحرب، متنبئاً بحرب عالمية ثالثة قوامها التكنولوجيا ووسائل الاتصال الاجتماعية. ولد غراس في 16 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1927 في أسرة بسيطة في مدينة دانتسيتغ. إذ عمل والداه في البقالة، وكان زبائنهم من الفقراء. كما كان البيت الذي يعيشون فيه صغيراً وضيقاً، في وسط كاثوليكي. يقول كاتب سيرة غراس ميشائيل يورغس عن هذه الفترة: «إنها طفولة بين الروح القدس وهتلر».
حياة غراس كانت حافلة بلحظات مأساوية مع كل مرحلة من مراحلها، ففي السابعة عشرة من عمره عايش أهوال الحرب العالمية الثانية عام 1944، أولاً كمساعد في سلاح الجو، ثم بانضمامه للوحدات النازية الخاصة «إس إس»، التي اعترف بانتسابه إليها بعد عقود عدة، وهو ما أدى إلى جدل كبير في ألمانيا، على خلفية وثائق كشفتها إسبانيا ما أدى إلى اعترافه بهذه الوثائق. غير أن انضمامه هذا لم يغير من وجه نظره تجاه الحرب ومن يديرها، فقد كان واحداً من الذين رفعوا أصواتهم من تحت الأنقاض ليكونوا شاهدين على ما رأوا، وسمعوا خلال الحقبة النازية السوداء. ومنذ البداية لفتت قصائده ونصوصه انتباه رفاقه في مجموعة 47 من أمثال هاينريش بل ومارتن فالسر وألفريد أندريش. غير أن غراس كان يعلم أن الطريق طويل وأن حرق المراحل يمكن أن يقتل موهبته قبل اكتمالها، لذا فضّل أن يتمهّل وأن ينصرف إلى العمل الجاد في انتظار اللحظة المناسبة.
وحسب ما يسرد حسونة المصباحي، الذي كان يلتقي بغراس في ألمانيا، أنه بعد أن عثر على والديه اللذين فرّا من دانتسيك عندما دخلها النازيون التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في ديسلدورف لغرض دراسة الرسم والنحت. وفي عام 1954، عقب رحلة طويلة عبر إيطاليا وفرنسا، تزوّج من أنّا شفارس السويسرية الجنسية. وبعد أن أصدر مجموعة شعرية عام 1956 وأقام معرضاً في شتوتغارت انطلق إلى باريس صحبة زوجته التي كانت ترغب في تحسين مستواها في الرقص، ومعها أقام في شقّة بغرفة واحدة ومطبخ صغير على مدى أربع سنوات. وعلى الرغم من الصعوبات المادية التي كانت تحوّل أحياناً حياته وحياة زوجته إلى جحيم، ظلّ غونتر غراس منكبّاً على كتابة روايته الأولى «طبل الصفيح» التي ستدخله إلى عالم الكبار في مجال الأدب.
كانت رواية «الطبل الصفيح» قد صدرت عام 1959، وهي الكتاب الثاني له بعد مجموعته الشعرية الأولى داينتسيغ عام 1956، لتتبعها رواية «القط والفأر» 1961، و»سنوات الكلاب» 1963، و»تخدير جزئي» 1969، و»اللقاء في تيلكتي» 1979، و»الفأر» 1986، و»مئويتي» 1999، و»مشية السرطان» 2003، وصولاً إلى روايته الأخيرة «الرقصات الأخيرة» عام 2003.
ربما كانت خلفية غراس الفنية ودراسته في أكاديمية الفنون الجميلة لها الأثر الواضح في أعماله الأدبية، فمن يقرأ رواياته ويتأمل شخصياته لا يشك أبداً في كون الروائي رساماً ونحاتاً. فهو يرسم تلك الشخصيات وملامحها ببراعة تشكيلية تنم عن ثقافة فنية عميقة وولع بفن البورتريه خصوصاً. فالروائي هو رسام ونحات أيضاً وله أعمال خاصة جداً في هذين الحقلين.
وقد ساعده الرسم والنحت على خوض غمار الكتابة الروائية كمتأمل في الأشخاص والوجوه والمعالم عبر عينين تلحظان بدقة وتتأملان بعمق. في مقالة ترجمها حسين الموزاني عن الألمانية، يشير كاتبها إلى أن عالم غراس الأدبي يصعب اختصاره وكذلك تجربته السياسية والتزامه واشتراكيته الوطنية وسيرته، فقد انطلق من «دكان» أهله في إحدى ضواحي دانتزيغ، حيث تعلم فن الحياة لينتهي روائياً طليعياً وكاتباً ساخراً ورافضاً ومتمرداً، بعدما اجتاز مراحل عدة خلال الحرب وبعدها، فشارك في الحرب وجرح وسجن وخرج إلى فضاء الأدب وسافر وقرأ وكتب ورسم..
جهد غراس هذا، وإخلاصه للكتابة لم يذهب سدىً، بل حصل على جوائز مهمة في حياته، وربما كانت جائزة نوبل ثمرة مهمة لتضعه مع القامات الكبيرة في الأدب العالمي عام 1999.
الرسم والنحت والرواية لم تكن عوالم غراس فحسب، بل كتب المسرحية، ومثل الكثير من أعماله على خشبة المسرح الألماني، ومن أهم تلك الأعمال مسرحية «الطهاة الأشرار» 1956، و»الفيضان» 1957. غير أن حب غراس الشعر كان أكثر من حبه للمسرح، فأصدر أول كتاب شعري له عام 1956 (Die Vorzüge der Windhühner)، و(Gleisdreieck) 1960، و(Ausgefragt) 1967، و(Gesammelte Gedichte) 1971، وأخيراً في عام 2004 مجموعته (Lyrische Beute). 
كان غونتر غراس قد أثار جدلا كبيرا بعد نشره لديوانه« ذباب مايو» وعلى نحو خاص قصيدته « ما يجب أن يقال» التي انتقد فيها بقوة إسرائيل واتهمها بكونها تهدد السلم الدولي الذي وصفه بالهش، من خلال اعتزامها شن ضربة عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية. كما أدان فيها بيع بلاده غواصات قادرة على حمل أسلحة نووية لإسرائيل. والقصيدة في الأصل مدح لمردخاي فعنونو، الخبير الإسرائيلي الذي كشف عن قدرات إسرائيل النووية وسجن لمدة 18 عاماً بتهمة التجسس.

لكن لماذا كان غراس يجد في الشعر ضالته وسبيلا لنقد القول السياسي، فهذا الكاتب المثير للجدل لم يسلم من نقده الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بالسوق المشتركة الفاقدة للقيم، بل أن المستشارة الألمانية ميركل نالت حظها من نقده اللاذع، حينما وصفها بالجبن السياسي دفاعا عن كرامة ألمانيا، بعد فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على ألمانيا، وقد وصفها قائلا «السيدة ميركل جبانة سياسياً، فهي ليست قادرة على الاستفادة من سيادة جمهورية ألمانيا الاتحادية التي نحظى بها منذ الوحدة».
دافع غراس اليساري عن القضية الكردية وعن قضايا حقوق الإنسان، لأنه كان مناهضا للهيمنة. اختار هذا النهج ودافع عنه إلى أن فقد بريق الحياة في أحد مستشفيات مدينة لوبيك شمال ألمانيا عن عمر يناهز 87 عاما.
صفاء ذياب ومحمد العناز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق