بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 15 أبريل 2015

شعراء عراقيون يلقون قصائدهم للألغام احتجاجاً على الموت اليومي

 يتساقط المطر على فحم الجرة القديمة لصورة اللغم النائم
تحت الغرق
أو تحت الغيمة الراعشة في سطور اللغة
تحت ما اسميه الهروب من حبل الغسيل
خيوط الانبهار بنمو عشبة الحياة من تأكسد الحديد على شفاه التذكر
قيلولة الموت
عند غفلة الحقل
معلق بدبوس ناعم
فيما تفتح عين الله مهابة الخراب
ما الخراب الذي يتحدث عنه الشاعر مازن المعموري في قصيدته التي ألقاها في صحراء لا أول لها ولا آخر؟ صحراء لا يخرج الماء من آبارها مهما حفرت عميقاً، بل كلما حفرت طفا إلى السطح لغم زرعته قوات عسكرية دخلت إلى أرضنا، وذهبت من دون أن تأخذ معها أفواه الموت، التي لا تريد أن تُغلق مهما دفعنا من أرواحنا الوالغة في الشعر.
فتية كانوا على موعد مع الحياة، أو بتعبير آخر، موعد مع الوقوف بوجه الموت، إذ تركوا منصات اتحادات الأدباء واتجهوا صوب الصحارى المحيطة بمدننا ليقرؤوا قصائد تكالب بإيقاف الموت، الموت الذي يعيش حولنا من دون أن نعرف متى يسرق روحاً هنا أو قدماً هناك، طفلاً هنا أو شيخاً هناك، فالألغام تحيطنا من كل جانب من دون أن تتحرك الحكومة لتفجيرها أو قلعها من جذورها.
بدأ رحلة السفر والاكتشاف من مدينة الحلة، وعروض بابل المعلقة، مازن المعموري، كاظم خنجر، علي الذرب، محمد كريم، أحمد ضياء، علي تاج الدين، زيد فلاح وأحمد جبور، ليساندهم في ما بعد، حسن تحسين، حسن الغبيني، عباس حسين، علي أصلان من كربلاء، أحمد عدنان من النجف. شعراء شباب حاولوا أن يقولوا كلمتهم بوجه الريح، يتحصنون بالشعر، فلا بندقية لديهم ولا معول، بل الكلمات التي لا يمتلكون غيرها بدأوا ينثرونها فوق حقول الألغام، داعين لنجدة ملايين المواطنين.
لماذا.. وكيف؟
لكن ما الذي يدعو شعراء لترك بيوتهم والخروج إلى خارج المدن، يتوسدون الصخر ويغطون رؤوسهم بالطين. الشاعر مازن المعموري يقول إنه عندما يكون الشعر مجرد لغة مستعادة بسبب هيمنة الإرث الشعري العربي الكبير على ذائقة الكتابة التقليدية، يصبح لزاماً أن نختلف في الرؤية الفلسفية والأسلوب وتدمير النمط، وما يحدث على أرض الواقع العراقي منذ عام 1980 وحتى الآن، لا يمكن تجاهله تماماً، وبالتالي فإن الكتابة يجب أن تكون على حافة النار والموت، وبالآلية ذاتها في التناغم مع المغامرة والإحساس بالفجيعة الكبرى التي تنال حصتها كاملاً من الشعب العراقي. ويضيف المعموري: من هنا كانت الرغبة في استكشاف المغيب من الواقع والعمل على متابعة نقاط الدمار بدءاً بلحظة الموت الوجودي للمجتمع، التي قدمناها في فعالية المقابر ومروراً بالمفخخات، والآن حقول الألغام التي تعد أحد أخطر المشاكل التي تعاني منها البيئة العراقية، خاصة منطقة الوسط والجنوب المليئة بالألغام، حسب دراسات عالمية متخصصة تكشف أن ربع ألغام العالم في العراق حصراً، ولك أن تتخيل مدى المساحات الشاسعة في المناطق الحدودية. أما الحلة فإنك تندهش لكثرة الألغام فيها لأن الأعداء تحيطها من كل جانب، جرف الصخر ما زالت حتى الآن منطقة حرب وألغام. أما جنوب الحلة فلا تعجب حين أقول لك إن هناك قنابل عنقودية ما زالت ساكنة على رؤوس النخيل في منطقة الكفل، وهذا الكلام ليس مبالغة أبداً.
المعموري يؤكد أن الشعر العراقي ما زال تقليدياً؛ مع الأسف الشديد، وما زال الشاعر العراقي رومانسياً، بل أن الكثير يمارس الكتابة لغرض الوجاهة الاجتماعية، والحقيقة فإن التجارب المؤلمة التي مر بها البلد أكبر من الكتابة الشعرية العراقية بلا شك، وهذا الموضوع هو ما دعا الشعراء إلى اقتراح أفكار جديدة لقراءة المشهد ومواجهة المحنة بآليات مختلفة عن التقليد السائد.
صاحب فكرة المشروع، الشاعر كاظم خنجر، يشير إلى أنه في ظل هذه المجازر والمقابر والتهجيرات والتطبيع مع القتل، الذي يسعنا في كل يوم ولا يمكننا أن نسعه بالاستعارات والبلاغة الفاسدة ببساطة، لأنه القتل غير التقليدي المدهش والفني الذي تربينا عليه وتعلمنا منه بلاغتنا… من هنا جاء سؤال الكتابة لدينا هو كيف نسد فمه؟ وأي القوت يكفي؟ جاء القرار أن نكون نحن قوته أن نقف في فمه، ولكن لن يستطيع التهامنا بسهولة. مبيناً ليست هناك فكرة، بل هناك فعل، لو كانت هناك فكرة لتوقفنا، فمن المقابر إلى المفخخات إلى الألغام والمقبل أكثر صرامة وتحديا لأرواحنا، فنحن نسعى إلى التعامل مع الكتابة على أنها ليست وسيلة وإنما أفعال.
أما الشاعر أحمد ضياء فقد أقدم على هذا المشروع ليكون الشعراء على تماس مباشر بما يحدث، كان الإقدام على مشاريع كهذه لب العمل والانشطار حول هذه المفاهيم. ومن غير المناسب أن أجد ألا يكون الشاعر على مثل هذا التماس، لذا انطلاقا من مشاريع سالفة مثل «المقبرة والسيارات المفخخة» ارتأينا أن نباشر هذه المرة وجهتنا الجديدة نحو موت حقيقي، مع ألغام حية إلى الآن لم تفكك، بل إنها تسيج ببعض كيلو مترات من الأسيجة النحاسية، فهذا أمر كبير جداً وعلى الجميع الوقوف ضده. وبالتالي يجد ضياء ألا مبرر يدفعهم للابتعاد عن هذه الأزمة، فالألغام كانت على شفا حفرة منا، لذا لمسنا الرعب في قلوبنا ونحن ننظر إلى آليات من لب المسرحة الجثثية، فكل منا متوقع ألا يعود للديار، وأن المخاطر هي الأساس في مشاريعنا. «اتخذنا وجهتنا للموت بكامل إرادتنا معولين على أن نغير الشعرية العراقية وننقلها من قالب النسقية المحيطة بنا. تمركُزت الشعرية العربية سالفاً، تمايزت على أنها أنساق وهذه الأنساق جعلت من النص الشعري معادلة رياضية لا نصاً شعرياً يعبر عن مكنوناتنا، لذا ومن مسرح الصورة إلى مسرح المكان إلى مسرح الشعر، تبارزت هذه الأنواع في ما بينها لتنتج لنا رؤية ما بعدية لأرض الواقع، التي أسهمت بدورها في إنتاج حركة جديدة، ولعل أهم ما أنتج هذا الشيء على أننا كتلة شعرية متراصة لها أبعادها ومكوناتها الأبستمولوجية، فأسهمت هذه الأمور في إضفاء طابع جديد على الصورة والنص… أليس الشعر هو الانهماك بمقتضيات الجانب الفلسفي».
من جانبه، ينظر الشاعر أحمد جبور إلى هذا المشروع الشعري على أنه تحول كبير يعكس انفعال واستحضار الواقع المعاش، وما يقدمونه يمثل رؤية جديدة لنتاج ثقافي متداخل بصور وأماكن موجودة، وهنا تكمن وظيفة روح الشعر، أما الفكرة فتتكون في أثناء حواراتهم اليومية وآرائهم في طرح موضوع ما.
حركية الشعر
ليس من السهل جمع هذا العدد من الشعراء وإقناعهم بفكرة مشروع، ربما لا يروق للكثيرين الذين يريدون من الشعر ألا يبتعد عن القاعات المغلقة والمنصات التي أحاطتها بيوت العنكبوت من كل جانب.. الشاعر مازن المعموري يوضح بعضاً من تفاصيل هذا التجمع، «كنا نجتمع كلنا على ضفاف نهر الحلة، لنتدارس الواقع الثقافي والشعري كأي مجموعة من المثقفين، وكان اقتراح البحث عن مناطق جديدة للتعبير داخل كل واحد منا يشكل هاجساً ملحاً للتميز والإبداع ، فاقترح الشاعر كاظم خنجر الفكرة واقترحت أنا عنوان المشروع والتنظير له «المتناهي لما بعد الشعر»، وكانت الحركة الأولى هي القراءة في القبور، واستمر الأمر هكذا، وكان نجاح المجموعة في ترتيب الأمور والاتفاق على العمل الجماعي من دون سيادة شخص أو تهميش شخص آخر من الأمور المتفق عليها، فنحن جميعاً نعمل من أجل قضية إنسانية كبرى تخص العالم وليس العراق فقط، وكان الشعراء الشباب أكثر الناس طموحاً».
ويتحدث الشاعر كاظم خنجر بأنهم أصدقاء ولهم لقاء يومي، بعضهم لم يقتنع بالفعل فانسحب والبعض لم يع حجم الفعل فقاموا بعزله. مضيفاً أن الإطار المشترك صفة عابرة، ففي المستقبل ربما يؤدي الفعل شاعر واحد لا يريد أن يقتسم فعله أو فريسته مع أصدقائه، فالحالة العامة كقطيع أسود يفترس غزالة، خيراً من أسد واحد يهاجم قطيع فيلة.
لكن أحمد ضياء يوضح أنهم لم يكونوا بحاجة إلى إقناع أحد، فالكل له وجهة نظرة، بالتالي كان الجميع على تماس بالمشروع، وأن الجميع يعون المسائل التي يقومون بها، وهذا سهّل عليهم الكثير من الأمور. «أغلب المشتركين هم مجايلون لنا، بالتالي فهذا الأمر مكَّنهم من تفهم ما نرمي الوصول إليه، فالشاعر كاظم خنجر كان على قدر كبير من تحمل المسؤولية كونه عمل جاهداً على وصول هذا الأمر إلى متناول الجميع، ولا أحصر المشروع في خانه خنجر، إلا أنني أجدني أمام اعتراف بفضله، كما أجدني أقول ألا فضل على أحد، فقضيتنا لكمة جماعية وجهناها بوجه الشعرية ونحن متكاتفون معاً».
حرية المشروع
لم يفرض شاعر من هذه المجموعة رأيه في اختيار نص شاعر آخر، بل كان الاختيار فرديا، فلم يكن الهدف كتابة نصوص تعبوية أو توجيهية، بل الخطوة الأهم هي القراءة وسط حقول الألغام لتعريف العالم والمجتمع الدولي بالمخاطر المحيطة بنا. هذا ما يؤكده مازن المعموري، الذي أشار إلى أن كل شاعر حر في التعبير عن نفسه، «لسنا أوصياء على أحد، الشرط الوحيد الذي يجمعنا هو التعبير الحر بالمطلق وبكل الوسائل، من دون تحديد حتى على مستوى الأخطاء النحوية، كل شاعر مسؤول عن نصه».
كاظم خنجر يكشف أنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن النصوص وتوجهها وشكلها، فالشاعر ينفرد مع القبر أو السيارة المفخخة أو اللغم وحده من دون أي متلقٍ أو وصي ولا أحد يدري ماذا سيقول، لأن الكاميرا وحدها تراقبه من بعيد. وليست المجموعة لجنة فحص نصوص؛ حسب رأي أحمد ضياء، فلكل «شاعر منا تجربة خاصة وعليه أن يتحمل التبعات التي ترد عن نصه، كما يجب على المشاركين أن يمتلكوا حرفة الكتابة النصية والصورة الشعرية، وهذا ما جعل الجميع أمام الموقف ذاته من الكتابة والشعرية أيضاً، فكل واحد منهم أراد أن يطرز له خطاً شعرياً تجريبياً». ومن ثمَّ ربما تأتي أغلب النصوص المشاركة في هذه الفعاليات كردة فعل إزاء الواقع، بحسب أحمد جبور.
شعر ومتلقون
على الرغم من سعي الشعراء لإيصال أصواتهم إلى العالم، غير أنهم في الوقت نفسه لم يعيروا اهتماماً للمتلقين وحضورهم، فلا جمهور هناك ولا أي شخص يشاهد، لأن المشروع قائم على أساس مواجهة الذات مع العالم بكل ذاتية محضة، وهذا ما يكشف عنه مازن المعموري، فليس هناك سوى الكاميرا التي تصور والأفكار التي تبتكر، «أما على صعيد دعوة الشعراء العراقيين والعرب، فإننا نجد رفضاً قاطعاً للمشروع، ما عدا الناقد عبد علي حسن، الذي كتب عنا مقالاً في جريدة «طريق الشعب» وشعراء الخارج فهم يحيوننا من على صفحات الفيسبوك».
ويتمنى المعموري من كل شاعر عراقي أن يكون نفسه، وأن يكون صادقاً في التعامل مع محنة العراق، لأن التاريخ لا يرحم أحداً، والمسؤولية تقع علينا دائماً لأننا كسولون حد الموت الذي لا يريد أن يتركنا أينما هربنا. ويقسم أحمد ضياء الجمهور إلى ثلاثة أقسام، مرحلة المقبرة: تفاعل الحضور (الموتى) معنا بشكل رهيب، بحيث أنهم ظلوا صامتين أثناء قراءتنا وبعدها. مرحلة السيارات المفخخة: وجدنا تفاعلاً لا نظير له، حيث مثلت الأذرع والرؤوس المقطوعة والأشلاء المبعثرة مرحلة مهمة جداً من دخان القصيدة، لذا فالتفاعل هذه المرة جاء عن طريق رمي الجثث وأشلاءها نحو الأفق. مرحلة الألغام: بين الأنواع المختلفة من الألغام أحب أن أورد بعضها (البتار- القفاز- الأرضية – البحرية – المضادة للأفراد) وهو أخطر أنواع الألغام تتماثل نوعية الجمهور من كل حدب وصوب على نصوص لا ترجع لهم… أمام جمهور من هذا النوع ما تود أن تراه سوى لعبة لابد أن نكون جزءاً منها والكل أيضاً… لا جمهور يمكن له أن يتفهم ما نرمي إليه.
رفض هؤلاء الشعراء للجمهور، ينبع من إشكالية التلقي العراقية، أحمد جبور يبين هذا قائلاً: «التلقي يشكله التقابل الذاتي بين الشاعر والمكان فقط. لا جمهور هنا في العراق لأننا فقدناه كشعراء وأصبحنا غرباء عن الناس».
صفاء ذياب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق