بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 13 أبريل 2015

◘ بداية حرب... لا نهايتها - عبده وازن

دخلت الحرب اللبنانية عامها الأربعين. هذا الرقم لا يمكن تجاهله لما يحمل من رموز ومعان مبهمة في الذاكرة الشعبية الميثولوجية، فهو الرقم الذي تَغلِب عليه ذكرى الموت أو الرحيل في حسبان شعوب كثيرة ونحن منها. الحرب التي اندلعت ربيع عام 1975 أصبح عمرها أربعين. لا يتذكر اللبنانيون عام انتهاء هذه الحرب المصادف عام 1990 الذي عُرِف بعام اتفاق «الطائف». هم لم يحتفلوا مرة بذكرى انتهاء حربهم، ولم يُدرِجوا هذا التاريخ في روزنامتهم الجماعية. إنهم يصرّون على عام ولادتها الذي حفروه في قلوبهم وذاكرتهم، وانطلاقاً منه راحوا يحصون أعوامها المتوالية، عاماً تلو عام. ولا أظن أن ربيعاً مرّ لم يتذكر فيه اللبنانيون هذا اليوم: 13 نيسان (أبريل) 1975، على خلاف يوم «الطائف» الذي وقّع فيه الاتفاق الشهير. يحنّ اللبنانيون إلى يوم اندلاع الحرب لا إلى يوم «موتها». كانت كثرة منهم قررت الاشتراك فيها علانية، أحزاب وطوائف وجماعات وأفراد، ناهيك بأطراف آخرين، وجدوا فيها ذريعة لترسيخ موقع أو هوية، ومنهم أحزاب الكفاح الفلسطيني المسلح.
في الذكرى الأربعين لا يتذكر اللبنانيون حرب عام 1975 بمقدار ما يحنّون إليها. اللبنانيون الذين يشعرون أنهم خرجوا منها خاسرين واللبنانيون الذين يظنون أنهم خرجوا منتصرين. وكذلك القلة القليلة التي مكثت خارج حساب الربح والخسارة. البدايات، كل البدايات لها سحرها، حتى وإن انتهت إلى مآس رهيبة. هذه حرب تظل في ربيعها مهما شاخت وتقدمت في السن.
قد يكون من العبث الآن تذكّر الحرب اللبنانية. إنها إزاء الحروب المندلعة في سورية والعراق واليمن وغزة أشبه بـ «مسودة» حرب. لعلها تبدو قياساً إلى مآسي هذه الحروب حرباً رومنطيقية، حرب الأهل التي كانت تعتريها في أحيان نوبات ندم أو ضمير... في بضعة أعوام قليلة فاقت حرب سورية وحرب العراق أشد حروب التاريخ الحديث فتكاً وقتلاً وتدميراً وتشريداً واقتلاعاً... لا تستقيم المقارنة بين حرب لبنان 1975 والحروب العربية الراهنة. هذه الحروب العنيفة جعلت اللبنانيين ينسون حربهم ولو أنهم على يقين أنها لم تنته عام 1990 وأنها ما زالت مستعرة بالسر أو الخفية. أحدثت حرب العراق وسورية من الخراب ما يفوق التصور. جعلتنا هاتان الحربان نرى بعيوننا المفتوحة أقصى أحوال القتل والإبادة التي يمكن حرباً أهلية أن تبلغها. هاتان الحربان تتخطّيان المفهوم الأهلي للحروب. لا أهل هنا ولا أبناء وطن واحد ولا أخوة ولا أقارب... لا ماض يشفع ولا انتماء إلى أرض واحدة ولا تقاليد ولا ذاكرة... النظام السوري وشركاؤه بلغوا من العنف مبلغاً فاق وحشية إسرائيل. وكذلك العشائر والمذاهب والمِلل المتناحرة في العراق وسواه. وكذلك الظلاميون والأصوليون من «داعش» و «نصرة»...
نتذكر بداية الحرب اللبنانية، لا نهايتها. حربنا لم تنته أصلاً، وتوقّف المعارك لا يعني البتة انتهاء الحرب. الحرب لا تقتصر على الرصاص والقذائف وخطوط التماس والخطف والقتل. لا تنتهي الحرب إلا عندما تُقتلع جذورها من النفوس والذاكرة. لا تنتهي إلا عندما يشعر الجميع أنهم خاسرون وأن لا أحد استطاع أن يلغي أحداً. كانت حربنا أهلية وما برحت، أهلية في ما طرحت من أسئلة ظلّت بلا أجوبة، أهلية في ما حملت من كراهية وحقد وطائفية ومذهبية وعبث وجنون... أهلية هذه الحرب هي التي زادتها احتداماً وانغلاقاً والتباساً. حرب يتبادل فيها الأهل مواقعهم وأكاذيبهم وأوهامهم ومآسيهم، في عراء الموت وتحت شمس الاستباحة. كيف تنتهي حرب في ظل نهوض دولة مذهبية على أنقاض الدولة نفسها؟ انظروا إلى دولة حزب الله.
هل انتهت حرب لبنان لنتذكر نهايتها؟ إصرارنا على استعادة ذكرى ولادتها يدل على أن حربنا لم تنته ولن. لا يحتاج اللبنانيون إلى ساحات المعارك ولا إلى السلاح والرصاص كي يؤكدوا أن حربهم لم تنته. حربهم هذه تخطّت مواصفات الحروب التاريخية. إنها حرب الحروب الصامتة، حرب كامنة في الخفايا، حرب «السلم الأهلي» الذي لا يعلم أحد متى ينفجر وكيف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق