بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 26 أكتوبر 2014

♣ «مشروع للسلام الدائم» لكانط: أسمى مراتب الأخلاق الكونية - ابراهيم العريس

من الواضح أن كل محاولة تجرى في أروقة مجلس الأمن أو حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة لإيجاد حل ما لمعضلة تتعلق بالحروب الراهنة أو بالصراعات المحلية أو حتى بالنزاعات السياسية الدولية التي قد لا ترقى الى مرتبة
الحروب، تطرح من جديدة مسألة العلاقات بين الأمم ورغبة الشعوب في السلام الدائم، والدور الذي يمكن ان يناط بـ «حكومة عالمية» مثل منظمة الأمم المتحدة. ذلك ان هذه المنظمة تجد نفسها اليوم، ولا سيما أخيراً على ضوء ما يحدث في العراق وسورية وكذلك أوكرانيا وصولاً الى التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» الإرهابي ومشتقاته، في وضعية لا سابق لها، إذ عليها - وربما للمرة الأولى حقاً في تاريخها الذي يزيد الآن عن ستة عقود من السنين - ان تلعب الدور الذي كانت اصلاً ولدت لتلعبه، هي التي ظلت طوال العقود الفائتة تدور من حوله. وهذا الدور ربما نجد جذور الحديث عنه في نص، سبق كل النصوص في تصوّره العملي والفكري والأخلاقي لمسألة السلام بين الأمم، ليس كأمنية طيبة، بل كمشروع عمل. وهذا النص الذي نشر للمرة الأولى قبل اكثر من قرنين من زماننا هذا، كتبه الفيلسوف التنويري الألماني إيمانويل كانط في العام 1895، أي على ضوء البعد الأممي الجديد والمفاجئ الذي كان صار للعالم إبان الثورة الفرنسية وما حملته من جديد، عملياً (أي دموياً ومن ثم بسبب عولمة الصراعات بين نابوليون والأوروبيين الآخرين)، وفكرياً (أي من خلال كتابات الذين أرهصوا بها). والنص الذي نعنيه هنا هو «مشروع لسلام دائم» الذي اعتبر واحداً من أقصر نصوص كانط، لكنه من اهمها وأكثرها ارتباطاً بالواقع العملي... ولعل شيئاً من الإنصاف جدير بأن يجعلنا نقرأ هذا النص مرات ومرات، لنكتشف كل مرة ان كانط يكاد يكون فيه المؤسس الحقيقي الرائد لعولمة العالم، سياسياً و... أخلاقياً ايضاً.

> ينطـــلق كانط في نصه هذا من فكرة يقول فيها ان «حال السلام التي تقوم بين البشر العائشين في جوار بعضهم بعضاً، ليست حالاً طبيعية، بل هي في الأحرى حال حرب: إذ حتى إذا كان القتال لا يندلع على الدوام بينهم، فإن العداوات تشكل مع هذا خطراً دائماً». ومن هنا يرى كانط ان حال السلام بين هؤلاء البشر «ينبغي ان تُفرض فرضاً». ومن هنا دور الدولة - في نظر كانط - حيث ان دستور هذه الدولة هو الذي يفرض السلام بين الجيران من ابناء المجتمع الواحد، أولاً انطلاقاً من مبدأ الحرية، ثم انطلاقاً من مبدأ ارتباط كل طرف إزاء الآخر، ثم ارتباط الجميع بتشريع واحد مشترك، وثالـــثاً انطلاقاً من قانون المساواة بينهم (كمواطنين). وفي هذا الإطـــار يرى كانط ان الدستور الوحيد الذي يضمن السلام بين الأفـــراد داخل الأمة الواحدة والمجتمع الواحد، إنما هو الدستور الجمـــهوري. وبعد ذلك، إذ يفرّق كانط بين ما يسميه الدستور الجمهـــوري والدستور الديموقراطي، ينتقل من الحديث عن الأفراد داخل الحيز الجغرافي والوطني الواحد، الى الحديث عن الأمم، والعـــلاقات في ما بينهما. وهنا يشرح لنا كانط ان الأمم في العـــلاقـــات القائمة بينها تشبه المواطنين في علاقاتهم المتبادلة: إنها هي بـــدورها في حال حرب دائمة في ما بينها - او هذا ما تفرضه الطبيعة علـــى الأقل، حيث ان التهـــديد بالحرب والصراع قائم بصـــورة متواصلـــة. ولتفـــادي هذه الصراعات يتعيّن، طبعاً، على كل امة او دولـــة ان تدخـل مع الأمم - الدول الأخرى في شراكة هي نسخـــة عن الشراكة التي تضبط العلاقات بين المواطنين داخل الأمة الواحدة، مؤمّنــة لكل فرد ان يحترم الآخرون حقوقه، طالبة منه القيام بواجباته. ومن هنا، يستنتج كانط، ضرورة قيام نوع من الاتحاد (الفيديرالية) بين الشعوب. وهذا لا يعني بالنسبة الى فيلسوفنا، بالطبع، إلغاء استقلالية تلك الشعوب، بل قيام فيديرالية مهمتها ضمان حقوقها. وبالنسبة الى كانط تشكل هذه الفيديرالية رابطة للسلام، هي شيء آخر تماماً غير المعاهدات السلمية التي اعتادت ان تنهي الحروب ولكن من دون ان تلغي حال الحرب ومنطقها.
> إن كانط، في نصه الرائد هذا، لا يبدو كثير الأوهام، بل انه يقول لنا بكل وضوح ان الصعوبة الكبرى التي تقف في وجه وجود تشريع دولي اممي يعبّر عن نفسه في فيديرالية الشعوب، تكمن في واقع «ان كل دولة من الدول لديها قوانينها ودساتيرها التشريعية الداخلية» في الوقت الذي نجدها فيه «غير مضطرة للخضوع الى قوة إكراهية خارجية تضبط حقاً العلاقات بين الدول»، إذ هنا لا وجود للحق العام ولا للضرورات المتبادلة. ومع هذا، يقول لنا كانط، في فقرة هي الأقوى في نصه هذا «بما ان العقل يشجب الحرب شجباً مطلقاً كأداة لتحقيق الحقّ، تصبح مسألة تأمين السلم ضرورة وواجباً». وهذا يعني ان السلام الدائم «حتى وإن كان من غير الممكن تحقيقه الآن وفي شكل مباشر، يتعين ان يكون غاية من واجب الشعوب تحقيقها ضمن إطار تطور العلاقات في ما بينها». وإذ يتوقف كانط هنا ليقول لنا ان هذا «الهدف، هدف تعترف به كل الأمم» يقول مستطرداً: «ولكن بما ان النشاط السياسي يقاد عادة تحت تأثير الدوافع الأنانية، نجد كيف ان حكومة الدولة القوية، تسعى في علاقاتها مع جيرانها الأضعف، ليـــس الى القيام بواجب ما، بل الى توسيع رقعة ممارستها حقها». ولكـــن في رأي كانط هناك «قوة تعمل دائماً على تحطيم ما يبنيه الطمع السياسي الطموح: وهذه القوة هي الإرادة الكونية، التي تنحو دائماً الى البرهان على وجود غائية معينة في مجرى الأحداث». وهذه الإرادة الكونية هي، ودائماً في رأي كانط «العناية الإلهية التي هي العلم العميق لقضية اكثر سمواً، وغايته ان يحقق للنوع الإنساني هدفه الأسمى». وكانط ينطلق من هذا التأكيد الأخير ليقول لنا ان هذا يعني أن «على السياسة الخضوع للعامل الأخــلاقـــي، طالما ان الأخـــلاق هي الهدف الأسمى للإنسان». وهــــذا ما يدفع كانط الى الاستنتاج هنا بأن «مشكلة العلاقات الدوليـــة لا يمكن ان تجد حلها على الصعيد الحقوقي البحت بل فقط علــى الصعيد الأخلاقي» في معنى أن «تحقيق فكرة السلام الدائم بيـــن الأمم لا يمكن ان تكون إلا هدف واجب أخلاقي يفرض نفسه على ضمـــائر كل أولئك الذين يسعون إلى ضبط العلاقات المتبادلة بيـــن الأمـــم». وهذا ما يدفع كانط الى مخاطبة قرائه - ولعل بينهـــم اصـــحاب المساعي هؤلاء - بقوله: «اسعوا اولاً لكي تكون الهيمنــــة للعقل العملي الخالص ولعدالته، لتجدوا أن هدفكم (الذي هــو الــوصول إلى خير السلام الدائم) يتحقق أمامكم تلقائياً».
> حين صاغ ايمانويل كانط (1724 - 1804) هذا النـــص كان يفكـــر طبــعاً بوضـــعية اوروبا فـــي ذلك الحين، وكان ايضـــاً يفكــــر بالسلام بين شعوب متساوية حضــارياً الى حد ما، ويعيش كل منها استقــلاله، أو قدراً كبيراً مـــنه علـــى الأقل. وآية ذلك انه حين وضع هذا النـــص، إنما وضعه لمنـــاسبة عقد مؤتمر بال في العالم 1795، حيـــث كان لاحظ ان معاهـــدة السلام المنفصلة التي عقدت بين بروســـيا وفرنسا لم تتمـــكن ابداً من وضع حد لحال الحرب في مناطـــق اخـــرى، إذ فيـــما كانت بروسيا وفرنسا تسعيان الى ان تنعما بالسلام، كانت الحرب متواصلة بين انكلترا والنمسا.
> وإيمانويل كـــانط كـــان في ذلك الحين يعيش ذروة مجده كواحـــد من اهم الفلاسفة الألمان، اضافة الى ان فكره الذي كان يـــزداد انتشاراً كان في طريقه لأن يصبح فكراً عالمياً بامتياز. لكن عالـــمية فكر كانط لم تنبع من مثل هذه النصوص السياسية او السلمية (على اهميتها) بل من فكره النقدي الفلسفي الخالص، والذي تجلّى في الكثير من اعماله الكبرى، والتي لا تزال الى يومنا هذا مرجعاً فكرياً انسانياً كبيراً، ومن هذه الأعمال «نقد العقل الخالص» و«نقد العقل العملي» و«نقد ملكة الحكم» و«أسس لميتافيزيقا الأخلاق» ناهيك بعشرات النصوص الأخرى التي أثّرت في معظم فلاسفة القرنين الأخيرين، إيجاباً وسلباً أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق