بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

«انتصار الديموقراطية مقبل» لتوماس مان: مهما اسودّت الأزمنة - ابراهيم العريس

ربما يكون التحوّل السياسي الذي طرأ خلال سنوات العشرين من القرن الفائت، على الكاتب الألماني توماس مان، واحداًمن التغيّرات الأكثر جذرية التي طاولت أديباً من جيله. لا سيما في زمن التغيّرات الكبيرة الذي شهده
وكان شاهداً عليه. فتوماس مان، الذي كان فاعلاً وحاضراً في الحياة الثقافية الأدبية في المانيا وأوروبا منذ بدايات القرن العشرين على الأقل، كان عُرف خلال الحرب العالمية الأولى بتأييده المطلق للقيصر فيلهلم الثاني ونزعته العسكرية. وبالتالي كان مان مؤيداً للحرب التي تخوضها بلاده ضد الحلفاء، كما كان أيضاً في الوقت نفسه وعلى الصعيد الاجتماعي، ذا نزعة شديدة المحافظة معادية لليبرالية. ومان كتب نصوصاً كثيرة هاجم فيها تلك الليبرالية مدافعاً عن القيصر والحرب مؤيداً نزعة ألمانية شوفينية متطرفة، ما جعل حتى أخاه هاينريش مان، ذا التوجه التقدمي الواضح في ذلك الحين، يكتب متسائلاً عن هذا التفاوت السياسي والأخلاقي لدى توماس بين عالمه الروائي ونظراته السياسية. فبالنسبة الى هاينريش (صاحب «الملاك الأزرق») ما كان يمكن أبداً، الذي كتب «آل بودنبروك» و «تريستان» و «طونيو كروغر» وغيرها من الأعمال الكبرى، أن يبدي خلال الحرب مواقف تتسم بكل ذلك المقدار من الرجعية. كان كلام هاينريش في حق أخيه قاسياً جداً، ومع هذا، من الصعب علينا الافتراض انه هو الذي غيّر وبدّل في مواقف توماس، دافعاً اياه بعد انقضاء تلك الحرب الأولى بسنوات قليلة الى أن يصبح من كبار المدافعين عن الخط الجمهوري والليبرالي الديموقراطي، بل حتى - وإن بحدود -، عن الخط اليساري التقدمي ممثلاً بتجربة جمهورية فايمار، التي لم يكتف مان بتأييدها لفظياً وعاطفياً، بل راح يدعو بكل قواه الى دعمها معلناً أن مثقفاً أو كاتباً يستنكف عن دعم تجربة جمهورية فايمار، ليس خليقاً بأن يُقرأ أو يحترم.

> كل هذا كان، على أي حال، قبل حلول النازية واستشرائها في المانيا، ما ينفي حتى القول - الذي راج فترة - بأن توماس مان بدّل مواقفه جذرياً تحت تأثير النازية وخوفاً على بلاده منها. المهم في هذا كله ان تغيّر توماس مان بدأ يظهر بعيد الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يبد كافياً لأخيه هاينريش حتى يرضى عنه. وفي المقابل، ما إن بدأ حضور النازيين يستشري، حتى انقلب توماس مان، من الدعوة الى فايمار، الى التجذر في مهاجمة النازيين، فكراً وممارسة، وراحت كتبه ومقالاته تشن عليهم الهجوم إثر الهجوم، وصولاً الى كتب له بدت واضحة في الرفض المطلق لتلك النزعة، حتى خارج اطار الكتابة السياسية البحتة، ومنها طبعاً «الجبل السحري» و «ماريو والساحر». ومن هنا كان من الطبيعي للنازيين ما إن وصلوا الى السلطة في العام 1933، أن يردوا لتوماس مان الصاع صاعين، وأن تحرق عصاباتهم، في الشوارع وفي شكل علني، نسخاً كثيرة من كتب توماس، منها «آل بودنبروك» بين ألوف الكتب التي أحرقت تحت ذريعة انها «معادية للوطن» و «منحطّة الاتجاه» وما الى ذلك.
> في ذلك الحين كان توماس وزوجته يمضيان اجازة في سويسرا، فما كان من ابنهما كلاوس، إلا ان أرسل اليهما مرسالاً ينصحهما فيه بعدم العودة. وهكذا بدأ بالنسبة الى توماس مان ذلك التجوال في المنفى الذي سيقوده الى الولايات المتحدة الأميركية حيث سيمضي سنوات عدة، لم تكن بالنسبة اليه من الناحية السياسية، بخاصة سنوات كسل، ذلك انه راح يتجول في طول أميركا وعرضها ملقياً الكثير من المحاضرات التي تندد بالنازية وتفضح الممارسات الهتلرية، في الوقت نفسه الذي تدعو الى الديموقراطية. ولكن تحديداً الى الديموقراطية على النمط الأميركي. والحال أن في وسع المهتم بهذا المجال أن يقول استناداً الى دراسة معمقة لكتابات توماس مان، إن الأمر بدا هذه المرة أيضاً، أشبه بتبدّل جذري لديه، ولكن من النزعة التقدمية - التي كادت تكون يسارية أواخر سنواته الألمانية ومتعاطفة مع الشيوعيين -، الى نزعة ليبرالية ديموقراطية تكاد تتغنى بكل ما أنجزته «الحضارة الأميركية» في هذا المجال. واذا كان مان قد أصدر خلال تلك المرحلة بالذات ثلاثة كتب - على الأقل - تشي بهذا الموقف المتجدد لديه، وهي «هذا السلام» و «مشكلة الحرية» وأخيراً «انتصار الديموقراطية مقبل»، فإن هذا الكتاب الأخير يبقى الأشهر، لأن مان جمع فيه عدداً من المحاضرات التي كان ألقاها خلال الفترة السابقة، وتحمل دعوات واضحة الى تلك الديموقراطية الجديدة، لديه، والمنشودة، والتي أراد من محاضراته ان تكون فعل ايمان بها. ويقيناً انه نجح في مراده هذا.
> لا يزيد عدد صفحات هذا الكتاب عن 70 صفحة، لكنه أثار حين صدوره اهتماماً كبيراً. ولنقل: اهتماماً سلبياً... وذلك، بخاصة، لأن توماس مان بدا فيه داعية للحرب ضد المانيا وحلفائها، وهو الذي خلال كل السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى، دعا الى السلام رافضاً كل شكل من أشكال الحروب. ولعل هذا الموقف هو الذي جعل كثراً من النقاد يميناً ويساراً يطرحون سؤالاً أساسياً هو: هل يمكننا اعتبار الحرب المقبلة (أي الحرب العالمية الثانية التي كانت تلوح في الأفق) حرباً عادلة ومن الواجب خوضها، اذا كان مسالم مثل توماس مان، يقول انها حرب صالحة... طالما انها حرب ضد الشر؟ ومن خضم هذا السؤال نبع يومها سؤال آخر أكثر ارتباطاً بتوماس مان نفسه: هل يمكن حقاً اعتبار ما في هذا الكتاب فكراً يعبّر عن مكنون هذا الرجل الذي جعل منه أدبه، الغائص عميقاً في دراسة طبيعة الانسان وسيكولوجيته، واحداً من أكبر الأدباء في أزماننا هذه؟ والحقيقة أن هذين السؤالين يبدوان مشروعين، لمجرد أن توماس مان بدا في محاضراته شديد العنف في دعوته الى وضع حد للهتلرية وعدوانيتها في المانيا وعلى الصعيد الأوروبي كله. واضح، في هذا الإطار، أن عرض توماس مان لمساوئ النازية وأخطارها في الارتباط مع الأوضاع التي وجد الشعب الألماني نفسه فيها بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى، كان عرضاً صحيحاً يستند الى الظواهر الاجتماعية وسيكولوجية الشعوب، ليستنتج ضرورة ماسة - وبالقوة - للتخلص من هتلر، إذ لم يعد ينفع في هذا الإطار سوى سلاح القوة. ومع هذا وقف المفكرون والأدباء ليقولوا لتوماس مان: «لا... كل الشيء إلا الحرب وقعقعة السلاح!» و «لا... ليست الحرب بالأمر الجيد حتى وإن كانت عادلة!». بل إن كتّاباً أكثر عمقاً وصفوا مواقفه ومحاضراته بأنها مغمورة بالعواطف و «تقترب أحياناً من حدود البارانويا والهستيريا». ورأى كتّاب من طراز سي. ستانلي، أن دعوة مان «الحربجية» هذه انما تنم عن موقف غير ديموقراطي «لأن الديموقراطية لدى هذا السيد لا تعني أكثر من حكم نخبة مثقفة للشعب، أي حكم ارستقراطية فكرية تمتلك خواص ارستقراطية استعلائية وحساً روحياً غامضاً...». واللافت أن ستانلي هذا، أكد في مقال ضد الكتاب نشره في صحيفة «نيوانترنشنال» (تشرين الثاني/ نوفمبر 1938)، أن أي تحليل منطقي للكتاب يدفعنا الى التساؤل عما اذا كان ثمة ما يفرق حقاً بين النازية وبين توماس مان، في جوهر الموقف.
> حين نشر توماس مان (1875 - 1955) هذا الكتاب الجامع لمحاضراته «الديموقراطية»، كان قد تجاوز الستين من عمره، وكانت شهرته قد باتت ماثلة في العالم كله، لا سيما في العالم الانغلوساكسوني الذي عرف معظم رواياته الكبرى مترجمة، كما كان يعتبر واحداً من أهم الأدباء العالميين الفائزين بجائزة نوبل (مان نالها العام 1929)، لكنه في الوقت نفسه، وعدا عن عدائه الشديد للنازية، لم يكن معروفاً بمواقف سياسية ثابتة وواضحة، وهو ما كان يأخذه عليه أصدقاؤه المقربون، لا سيما أخوه هاينريش الذي كان مناضلاً يسارياً. ومهما يكن من أمر، كان يكفي توماس مان، للبقاء طويلاً في ذاكرة القراء، كل تلك الكتب الروائية والقصصية الرائعة التي ذكرنا اضافة الى «دكتور فاوستوس» و «الموت في البندقية» و «اعترافات فليكس كرول».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق