بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 مايو 2015

◘ ذكرى النكبة 67 والتراجيديا… المنفى التسلسلي

هُنا الآن، في منتصفِ شهر أيّار/مايو، أتذكّرُ بعضاً من حكايا اللجوء الأوّل الذي رواها لنا جدّي وكتبها في ما بعد والدي عن قريتِنا التي أصبحت أرضاً مزنرةً ومسجونةً بالأسلاكِ الشائكةِ، كتب عليها بالعبرية «ممنوع الاقتراب» قريتي الغابسية، التي تقع في شمال شرق مدينة عكّا، أرض الأسوارِ والبحرِ، في كُلِّ عامٍ تدورُ الحكاية في رأسي تعجُّ بالأحداث، يمرُّ الزمان من المكانِ والذاكرة ويبقى العامُ يراوحُ في العامِ الذي مضى وما يزالُ الجرحُ
جرحاً، والنكبةُ نكبة بل نكباتٍ من هُنا وهُناك، كان لجدّي بيت ككلّ البيوت من حجرٍ قديمٍ ومزرعةٍ، قريب من مسجد القرية الصغير، وفرس بيضاء تمكثُ بين الأشجارِ والبيوت، قبل النكبة هكذا روى جدّي لنا، كلُّ المشاهد والكلماتِ ما زالت تعششُ فينا لتخرج بطريقةٍ أخرى كالخيالِ والأحلامِ المنثورةِ في داخلنا، شيءٌ يأبى الانكسار، ندبٌ تستوطن القلب والروح، ولا جواب لأسئلةِ الوجع، مهما تغرّبنا أو شرّقنا نظلُّ نحن نحنُ أبناء الوجع، لا وجعَ أقلُّ ولا وجع أكثرُ .

في أيّارُ/مايو 1948 خرج جدّي والعائلة من قريتهِ ومن عكّا صوب جنوب لبنان، والفرس البيضاء تصهل خلفهم وتركض ثم تسقط على الرمل وتنهضُ ثانيةً، كأنّها تناديهم عودوا، ولكنها حين وصلت إلى حدود بلدٍ آخر، صهلت صهيلاً طويلاً وعادت ثانيةً من خلفهم وتركتهم يعبرون إلى الأمام، وأبت إلا أن تعود ولو وحيدة، وكأنها تعلم بأنهم يمضون إلى مجهولهم السرمديِّ إلى جهاتٍ لا يعلموها، ربّما لا تريد أن تنام الليل في خيمة، ربّما لا تريد الموت في خيمة، عادت الفرس وماتت في القرية أمام الشمس والأعداء، ولكنّها عادت، وبكى جدّي حين سرد الحكاية لوالدي وقال: لو مُتُّ مع الفرس كان أفضل من هذا الموت البطيء «المخيم». مضى الكلام والوقت والدمعُ معاً، مضى كلُّ شيءٍ 67 عاماً، وتستمرُّ الحكاية إلى حكاياتٍ أخرى بطعم النكبةِ المرّ، حيث أبطالها العائدون من المعركة والماكثون في الذاكرة، جدّي وأبي ثمّ أنا، من زمن القريةِ المغتصبة إلى زمنِ النضال والمخيم وبداياتِ الملاحم الكبرى واللجوء، إلى زمني أنا، هنا. الآن، كلُّ الجراح الجديدة والجراحِ الأخيرة، لا نكبة أوسعُ من نكبتِها ولا موت أضيق من هذا الرحيل الخُرافيِّ، رحلنا معاً من خيمةِ «القماش» إلى خيمةِ «الزينكو»، حتّى خيمة «الحجر»، ما أطول الزمن فينا وهذا التطوّر الشتاتيّ فينا، ومن خيمةٍ على الطابق الأول حيث جدّي إلى خيمةٍ على الطابق الثاني حيث أبي إلى خيمة الطابق الثالث حيث أنا، إلى السطوح ومشهد المخيّم التراجيديّ، تراجيديا المنفى التسلسيّ، هل يتسع صدر المخيم أكثر؟ ولا نعلمُ إلى أين سنرحلُ أكثر، لا نعلمُ ما يخبأُ المجهول لنا، لا نعلمهُ، خلف الحدود حدود أخرى لعالمٍ آخر، لا نحلمُ بشيءٍ سوى ما نبتغي من عالمنا نحنُ، هويّتنا وقضيتنا وعودتُنا إلى القرى، حيث قبر الجدود وقبر الفرس البيضاء، التي أصرت على الرجوع مثلما نصرُّ نحن اليوم وما زلنا نصرُّ غداً وما تبقّى فينا من أمل الرجوع إلى البلد.
النكبة تتجدد وتتكرر في لونٍ آخر وفي مكانٍ آخر، وليس في وسعنا سوى أن نقبض على اللحظة الهاربة والذاكرة، لا نعرف النسيان، فالنسيان عدوّنا الأول، والذاكرة حليفتنا الأقوى في تعاملنا ومعركتنا مع النكبة، ولكن لا شيء يبدأُ ولا شيء ينتهي والرهانُ هو الرهان على الزمن، ونحن عاطفيّون جداً وأقوياء جدّاً لأننا ما زلنا على قيد الأحلام، في كلّ نكبةٍ نحلمُ أكثر مما مضى، ولكن يحقُّ لنا أن نصرخ أيضاً: ما أطول الليل.. ما أطول الليل.
76 عاماً من النكبةِ، تأتي وتذهبُ فينا «مخيم نهر البارد» و «مخيم اليرموك» صور الغروب والهروب/ البقاء والرحيل/ الفناء والدماء/ أيّار وأيلول، ولم ننتهِ إذن، ولم نبدأ بعدُ:
أيّارُ يا أيّارُ: عُدْت وَعادتِ الذكرى بقريتِنا،
وعادتْ خلفنا الفرسُ،
بيضاء كالروحِ الأخيرِ 
وما تبقّى من جراحِ الأرضِ أرضُ المقدسيّةْ،
أيّارُ يا جرحي البعيدُ 
وموطني في موطنِ الأحلامِ 
عشتُ هُناك ما عشنا ولا عشنا 
إذا ما ظلّلتْنا «الغابسيّة»
* باسل عبد العال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق