بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 31 مايو 2015

◘ المسلسلات المدبلجة وسياسة الاغتراب!

يمكن مقاربة موضوع المسلسلات المدبلجة، المُشَكِّلِ، منذ مدة، موضوعا للنقاش العمومي في المغرب، انطلاقا من ثلاثة مداخل متضافرة، وهي اعتماد العامية لغة للدبلجة، وثانيا خلفية انتقاء المسلسلات الأجنبية، وثالثا علاقة الصورة بالصوت:

1ـ يصعب الآن انتقاد أنصار استعمال الدارجة، وذلك لاعتبارين أساسين يتمثل الأول في كون التخطيط لهذه اللحظة قد تم منذ فجر الاستقلال، حيث اتخذ قرار نقل
المسرحيات العالمية ، قبل إخراجها، إلى الدارجة المغربية، إما عن طريق الترجمة إلى العامية مباشرة أو عن طريق إعادة تأليفها (الاقتباس)، وكان ذلك تنفيذا لإستراتيجية واضحة ومدروسة تتغيى، على المدى البعيد الذي نعيش بداياته الآن، إقصاء الفصحى من مجال التواصل الجمالي القائم على الصوت والصورة، تمهيدا لقطع الصلة معها في بقية أشكال التواصل العمومي السمعي البصري، الذي نلاحظ اليوم أن الإذاعات والقنوات التلفزيونية تجسده بلا هوادة. ومن الواضح أن هذا الاختيار الذي جرى تبريره بذريعة تتدثر بواقع الأمية المتفشية آنذاك، وبأن التواصل سيكون صعبا باللغة العربية الفصيحة. وهي ذريعة واهية بدليل أن المواطنين المغاربة، بمختلف فئاتهم الاجتماعية العمالية والحرفية، وحتى ربات البيوت، كانوا حريصين على تتبع نشرات الأخبار عبر الإذاعة الوطنية والمحطات الدولية، وحققوا معها التواصل والتفاعل، على الرغم من كونها ناطقة بالعربية الفصيحة. وقد خلق هذا نوعا من التقسيم القاتل بين لغة الفن (الخيال) ولغة المعرفة (الحقيقة الواقعية).. وكرس، من ثمة، تصورا يميز بين لغة التعبير الجمالي عن الخصوصية وحالات الروح، وبين التعبير التجريدي المعبر عن الكونية وحالات الأشياء العامة. ويضمر هذا التقسيم قسمات إيديولوجية مشابهة لتلك التي ظهرت بدايات القرن الماضي في مصر، التي عرفت «بالروح المصرية»، وسعت إلى الاحتفاء بكل ما هو مصري تليد، وأضمرت رغبة أكيدة في تكريس العامية بعدها لغة للتواصل الجمالي. ويبدو أن الذين قبلوا بهذا التوجه لم ينتبهوا إلى أن مصر تخلو من مقومات الشرخ اللغوي، لأنها بدون تعدد حقيقي (على خلاف المغرب العربي)، وأن لب الروح المصرية يتمحور حول الحضارة الفرعونية التي هي سابقة على اعتناق المصريين للديانتين الكبريين الإسلام والمسيحية، اللتين يدين بهما الشعب المصري.. ومن ثمة، فإن الصنيع المصري مبرر إيديولوجيا ومبني استراتيجيا، وهو ليس كذلك بالنسبة لبلدان المغرب العربي.
إن المبررات الأولى للاختيار اللغوي فقدت الآن قوتها الإقناعية، من جهة لأن الأمية في طريقها إلى الزوال، ومن جهة ثانية لأن المشاهد العربي، عامة، يستمتع أكثر بالمسلسلات التاريخية والأغاني الخالدة الفصيحة، كما أنه يتابع، بدون أدنى مشكل، نشرات الجزيرة والعربية وقناة أبو ظبي الجغرافية أكثر من غيرها، ويحقق معها التواصل الفعال. ومن ثمة فإن الحاجة إلى الدبلجة إلى العاميات في مختلف بلدان العالم العربي غير مبررة موضوعيا، وإذن فهي تدبير سياسي لمشروع مجتمعي ملتبس.
2 ـ انتقاء المسلسلات الأجنبية: من الصعب على غير المتابع للدراما التلفزيونية العالمية أن يقدم رأيا موضوعيا في ما تنتقيه القنوات المغربية أو العربية لمشاهديها، فلا بد أن المسلسلات الأجنبية بالآلاف، ولا شك أن من بينها السياسي والاجتماعي والترفيهي والتاريخي والمعرفي.. ولا بد أنها تتفاوت من حيث المستوى الجمالي وتختلف من حيث البعد الإيديولوجي. ولذلك فإن هذه المهمة الجسيمة يجب أن تسند إلى لجان متخصصة تضم السياسيين، وعلماء النفس الاجتماعي، والنقاد المتخصصين في الصورة.. لكي تكون عملية الانتقاء متحكم فيها، تخضع لاستراتيجيتين أساسيتين تتمثل الأولى في تمكين المشاهد المغربي والمبدع من الانفتاح على الفن الراقي العالمي وليس، فقط، على الحقيقة الاجتماعية المتصورة من قبل المخرجين الأجانب (والتي قد تكون حقيقة فعلية أو متصورة وحسب)، وتتمثل الثانية في انتقاء ما يدعم القيم الإنسانية التي لا تتعارض مع القيم الثابتة للثقافة المغربية ومقدساتها.
بناء على هذه القناعة، فإن انطباعاتي ستتمحور، فقط، حول نتيجة الانتقاء. لقد قدمت (وتقدم) القنوات المغربية نماذج من المسلسلات الآسيوية والأمريكية والتركية. بيد أنه من الواضح أن التركيز بناء على اختيار أوقات ذروة المشاهدة كان على المسلسلات التركية والمكسيكية والبرازيلية، ولم تحظ بعد المسلسلات الأوربية بالاهتمام، كما أن الآسيوية قدمت في أوقات غير ملائمة، ولذلك لم يكن تفاعل المشاهدين معها كبيرا. 
من البين أن أغلب المسلسلات المدبلجة إلى العامية المغربية تستبعد المسلسلات الجادة والعميقة والباعثة على التفكير في القضايا الجوهرية السياسية والاقتصادية والمعرفية.. وتركز، فقط، على ما هو سطحي ومبتذل، كما تركز على الأبعاد الوجدانية والعاطفية للشخصيات، وعلى النزوات المختلفة، وتقدمها انطلاقا من معجم مولد وهجين ومبتذل، مع الحرص على تبئير موضوعات بعينها، مثل الرياء والدسيسة والمكر والخيانة والدهاء والاستخفاف بالقيم. مع غياب شبه مطلق لأدوار الوازع الأخلاقي والديني والإنساني، التي إن ظهرت لا تظهر بِعَدِّهَا آليات متصورة من قبل فكر يمررها، بل تبدو عرضية، ومنبثقة من إرغام تحبيك العمل من أجل الإيهام بموضوعية العالم الممكن الذي تسعى إلى تشييده. ويضاف إلى ذلك أن ما يعرفه المجتمع المغربي ويخفيه تحت تأثير ثقافته الأصيلة يُظْهَرُ بنوع من العنف الذي يمارس على مبدأ «الحشمة « من قبل المَشاهد التي تحاول أن ترصد المسكوت عنه وتشخص ما يمكن التلميح إليه وحسب (وكأننا في رحلة معكوسة من الثقافة إلى الطبيعة). الشيء الذي يوحي بأن استراتيجية ما تحكم الانتقاء الذي يعمل على التطبيع مع الأخطاء العاطفية والأخلاقية ويلطفها، ومن ثمة يبررها عن طريق مبدأ التناظر في الإحساس والوضع.. إن الاستراتيجية الواضحة تفيد بأن الانتقاء موجه ليس لتعرف الحقيقة الاجتماعية للآخر، بل لخرق القيم المتوارثة الأصيلة لمجتمع لازالت قيمه المحافظة الضامن للانسجام والأمن والسلام. ومع ذلك فإن الحكم الموضوعي على فعل التلطيف الذي تضفيه المسلسلات المترجمة إلى العامية على أشكال الشذوذ الاقتصادي والعاطفي يظل من مهام علماء النفس الاجتماعي، فهم من يستطيعون التأكيد إن كان محاولة لإجبار المجتمع على حذو الصنيع المتخيل لعوالم المسلسلات الممكنة، أم هو تنبيه إلى / وتحذير من/ مآلاتها المدمرة.

3 ـ علاقة الصورة باللغة وعنف الدلالة: إن المثير في الترجمة إلى العامية هو تضافر الصوت والصورة، ذلك أن البعد النفسي المصاحب للغة المساوقة للصورة أكثر تأثيرا في تقبلها وتأطيرها ثقافيا، إن الصورة، وهي تقدم مصاحبة بلغة غيرية، تبدو كما لو كانت قد وضعت مسافة بينها وبين كل الناطقين غير الأصليين بها، أما حين تكون اللغة الأصلية متراكبة مع الصورة، فإن المشهد يبدو أقرب إلى الجوهر الثقافي المخصوص؛ ومن ثمة، فإن قوتها الإقناعية، وتأثيرها النفسي، وترسباتها في اللاوعي، تكون أشد وقعا. وهذه الحقيقة هي التي تحقق الغاية من التلطيف والتبييئ الممنهج لتمثلات جديدة لواقعية اقتصادية وعاطفية جديدة، حيث تجعل اللغة اليومية (المترجم إليها) العالم الممكن للمسلسلات كما لو كان عالما ممكنا مغربيا. وفي هذا التزاوج الفريد بين العامية الحميمية، والصورة الغيرية، يكمن خطر التأثير اللاواعي على الناشئة.
أكاديمي وناقد مغربي
عبد اللطيف محفوظ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق