بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 26 مايو 2015

◘ «تذكر أن تتذكر» لهنري ميلر: ها هي المواهب مرمية في الطريق!

«نحن نتمسّك بالذاكرة من أجل الحفاظ على هوية، آه لو كان في إمكاننا أن ندرك، أننا لا نستطيع أصلاً فقدانها أبداً. وحين نكتشف هذه الحقيقة، التي هي فعل الذاكرة نفسه، نجدنا وقد نسينا كل شيء آخر». هذه العبارات يوردها الكاتب الأميركي هنري ميلر، في مطلع مقال له طويل عنوانه «ذكرى ذكريات». وهذا المقال هو الذي أعار اسمه إلى واحدة من
أشهر كتب هذا الروائي - الناقد الذي كان واحداً من أشهر الكتّاب الطليعيين الأميركيين عند أواسط القرن العشرين. ونعرف، بالطبع، أن هنري ميلر لم يكن من الكتّاب الذين يستسيغ عامة القراء - بل عامة النقاد أيضاً - أدبهم، ليس فقط بسبب إباحية بعضه، بل كذلك لصعوبة البعض الآخر ولغته المركبة وتعابيره التي تبدو في بعض الأحيان مستقاة من لغة الشوارع المحلية ما يصعّب قراءتها على شوارع أخرى. فهنري ميلر، سار في زمنه عكس التيار الجماهيري الذي ساد الأدب الأميركي محولاً إياه إلى آلة تطحن الأدب الحقيقي، كما سار في الوقت نفسه عكس تيار الأدب الرفيع الذي مثله كتاب مثل فولكنر أو مالكولم لوري. كان أدب هنري ميلر أدباً خاصاً، شديد الأوروبية، شديد التضاد مع القيم الأميركية. أما كتابه «تذكّر أن تتذكر»، فإنه النص الذي عبّر فيه ميلر أكثر من أي مكان آخر، عن الجذور الخلفية لعدائه لأميركا ولكل شيء أميركي، حتى وإن كان، هو، في الوقت نفسه، شديد التعلق بأميركا التي صاغها في أدبه على مزاجه، ورح يبحث عنها في كل مكان، بما في ذلك، شوارع باريس الخلفية والقذرة.

> يقول لنا هنري ميلر، في واحد من أجزاء هذا الكتاب أن «أميركا مليئة بأماكن... لكنها أماكن خاوية. أماكن مزدحمة بأرواح خاوية... صحيح أن أميركا في الوقت نفسه مؤثثة بأحدث الآلات، وبكل أنواع الراحة الكاملة، إن جاز لنا القول. ولكن هكذا هي أميركا، وهذه هي أميركا، ولسنا في حاجة إلى أن ندخل صالات السينما لندرك هذا. ونحن، بالنسبة إلينا، قد يكون حسبنا أن ندخل صفحات هذا الكتاب الغريب، والأسهل ولوجاً بين كل نصوص هنري ميلر على أية حال، حتى نكتشف «أميركا هذا الرجل»، ولكن عبر سلسلة من البورتريهات التي يرسمها لأناس، يلتقي بهم في هذا الشارع أو في تلك الزاوية. وميلر في معرض حديثه عن هؤلاء الناس، وفي مجال إحالته إلى السينما الهوليوودية ككناية عن أميركا، يدهش كيف أن هوليوود تمضي وقتها وتنفق جهودها وهي تبحث عن المواهب... مع أنها، بدلاً من أن تسلط مجهر البحث هنا أو هناك، حسبها أن تنظر في أي مكان في أميركا لتجد أصحاب المواهب هنا وهناك، مرميين على قارعة الطرقات، في كل يوم من أيام العام، منهمكين في تلميع أحذية الآخرين وفي تنظيف ستراتهم. والحال أن أشخاصاً من هذا النوع هم الذين يتحدث عنهم هنري ميلر... الذي يقول لنا في مقدمة كتابه أنه إذا كان جعل كتابه هذا «يحتوي على عدد معين من بورتريهات الأشخاص الذين أرغب في أن أحيّيهم مكرّماً إياهم، فإنه كان في وسعي وبكل سهولة أن أوسع دائرة رسمي للصور فأطلع من ذلك كله بألبوم ضخم، وهو أمر ما كنت أرغب فيه أصلاً أنا الذي خلال ست سنوات، حتى ولو اكتفيت بأن أبقى جالساً في مكاني، لم يكن لي مفرّ من أن ألتقي عدداً كبيراً جداً من الناس. وإذا ما استثنينا بعض هذه اللقاءات، أؤكد أن معظم من التقيت بهم، كان اللقاء معهم مصادفة... وأود بهذا، أن أقول طبعاً أن القدر هو الذي جعل هؤلاء الناس في طريقي، أنا الذي تبدو حياتي كلها سلسلة من لقاءات المصادفة، علماً أن معظم صداقاتي بدأت على هذا النحو... أما الأشخاص الذي كنت أموت شوقاً للقاء بهم والتعرف إليهم، فإنهم خيّبوا أملي في النهاية حين التقيت بهم».
> إذاً، نحن هنا أمام كتاب عن لقاءات... إضافة إلى أنه كتاب عن أميركا، حيث إن ميلر، من خلال تلك اللقاءات رسم صورة تشريحية لوطنه الذي اعتاد أن يدفع إلى وهاد البؤس، كل أصحاب الأرواح الاستثنائية الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم رفضوا طغيان أميركا عليهم... كما رفضوا ذلك «الحس الأميركي السليم القائم على ممارسة العنصرية». وهذا ما يعبر عنه ميلر، مثلاً، في أحد النصوص، حين يحكي لنا كيف التقى رجلاً أسود يمسح الأحذية في صالون حلاقة وهو جالس على الرصيف قرب دكانه منهمكاً في الطباعة على الآلة الكاتبة «في ذلك المكان العام كان الرجل يكتب معظم رواياته... وكانت حبكات تلك الروايات استثنائية... وهذا أقل ما يمكن أن يقال عنها... بل كانت لوحات بانورامية أكثر منها روايات. والحقيقة أن هذه النصوص كان فيها شيء شديد الفرادة وسط عالم الأدب الأميركي. شيء ربما كان سيئاً... شديد السوء... لكنه كان شيئاً مثيراً، مثيراً ألف مرة أكثر من كل تلك الروايات الرخيصة التي تباع بعشرات ملايين النسخ».
> هذا الكاتب - ماسح الأحذية الذي يرسم لنا هنري ميلر صورته على هذا النحو - يشغل واحدة من البورتريهات التي يرسمها الكاتب صاحب الذكريات. وهو من بعده على التوالي يحدثنا - في الكثير من البورتريهات الأخرى - عن ثلاثة رسامين ونحات، وعن مدير مسرح. ولعل أهم وأقسى ما يعبر عنه ميلر، من خلال رسمه صورة هؤلاء الأشخاص إنما هو الهوة الواسعة التي يرى أنها تفصل بينهم وبين تلك الحضارة التي عاشوا وطلعوا في داخلها، معبرين بحياتهم ووجودهم عن أقسى آفاتها. مع هذا، فإن أغرب «بورتريهات» الكتاب، هي تلك التي يرسمها هنري ميلر للمدعو بدفورد ديلاني الذي يصفه بـ «المدهش وغير المتبدل» ويدخلنا في الحديث عنه على هذا النحو: «أجل إنه مدهش ولا يتبدل بوفورد هذا. منذ 48 ساعة والعاصفة عاتية هنا في بيغ شور، حيث يهتز البيت ويكاد يتهاوى... لذا، راحت أفكاري تجول حتى توقفت عند بوفورد. ما الذي صار عليه الآن، في شتاء مانهاتن، إذ تحول كل شيء إلى ثلج وجليد؟ هنا ثمة دفء على رغم كل شيء وعلى رغم العاصفة (...) ولكن هناك في الرقم 181، غرين ستريت حيث يشتغل بدفورد ويحلم ويأكل لوحاته، لا شيء سوى فرن يشخر، محتفظاً بدرجة حرارة ثابتة هي مئة وعشرون درجة مئوية... وهذا الفرن هو وحده القادر على أن يناضل ضد البرد المذهل الذي تبثه الجدران والأرضية والسقف الذي يتقاطر الماء منه... ولكن هذا الفرن لا وجود له ولن يكون له أي وجود في 181 غرين ستريت... كذلك فإن شعار الشمس الدافئ، لن يدخل أبداً إلى الغرفة الوحيدة التي يعيش فيها بدفورد...». وهذا التفكير ببدفورد هو الذي يحرك قلم ميلر، ليكتب بعد صفحات على لسان لوحة من لوحات بوفورد: «ها أنذا جالس هنا في غرين ستريت، لا أحد يمكن أن يراني سوى عين الله. أنا غرين ستريت منظور إليّ من وجهة نظر الأبدية. أنا زنجي مجنون، موجود على الشاكلة التي سأظهر عليها حين ينفخ الملاك غابريال في بوقه. أنا العزلة التي تعزف مستعجلة مجيء الأزمان المقبلة».
> إضافة إلى هذه البورتريهات الغريبة والمدهشة، ثمة صفحات عدة يتحدث فيها هنري ميلر (1891 - 1980) هنا عن تلك الحياة الصاخبة التي عاشها في باريس، حين فر إلى أوروبا هرباً من عسف المحافظين في بلده، وراح يطبع أشهر كتبه (مثل «مدار الجدي» و «مدار السرطان» و «بلكسوس» و «نكسوس» و «الكابوس المكيف») لا سيما سنوات الحرب التي كتب عنها ذلك النص المناوئ لكل قتل وكل حرب، وضُمَّ إلى «تذكر أن تتذكر» وعنوانه: «اقتلوا القاتل» وهو يعتبر واحداً من نصوصه الأساسية وأمن له من الشهرة مقداراً لم تؤمنه له كتبه الأخرى، خصوصاً أن لغته فيه بدت شديدة السلاسة والوضوح، كما أن أفكاره بدت فيه شعبية، بل شعبوية في رأي البعض.
* ابراهيم العريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق