بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 مايو 2015

بريطانيا: انتخابات ما بعد نهاية صلاحية النظام!

في زلة لسان فرويدية الأبعاد، قال ديفيد كاميرون اثناء الحملة الانتخابية ان هذه الانتخابات «سوف تحدد المستقبل…». المستقبل الوطني؟ لا يا طيب القلب، بل «المستقبل المهني»..! 
زلة مزلزلة. الا ان مرشح حزب المحافظين، الذي فاز بانتخابات الخميس، كان من حدة الذكاء وحضور البديهة بحيث تدارك الامر فورا، مصححا بأنها انتخابات «سوف تحدد مصير البلاد». صحح كاميرون مقالته مسترسلا بكل ما أوتي من ثقة نفس وفصاحة قول ظنا منه، على ما يبدو، ان هذا «الانزياح اللغوي» لن يؤخذ الا مأخذ التلعثم العفوي. ظن له ما يبرره. اولا، لأن مسألة «المستقبل المهني» وما يتصل به من رواتب وترقيات وسواها من «شؤون الموظفين» لا يمكن ان تخطر على بال الحضور او الجمهور في مثل هذا المقام. وثانيا، لأن الزعم بان «مصير البلاد وقف على نتيجة هذه الانتخابات» كلام انتخابي معقول. بمعنى انه كلام مكرور يطلق ويتوقع في كل انتخابات. 
الا ان السيف سبق العذل فانكشف المضمر: وهو ان كل هذه الجلبة الدعائية والصخب الإعلامي وضرب الأخماس في الاسداس منذ أسابيع، بل منذ أشهر، إنما هو من لوازم تحديد المستقبل المهني والوظيفي لبضعة أشخاص من الطامحين إلى السلطة. هذا هو كل ما في الامر. رهان الانتخابات البرلمانية في اعرق الديمقراطيات هو مجرد مسألة شخصية: مسألة تحسين وضع مهني. 
انها زلة لسان مزلزلة لثوابت الفهم السياسي العام. ولكن الحقيقة التي تكشفت عنها ليست بمدهشة او بمفاجئة الا لمن لا يزال مقيما على قديم الظن بان الانتخابات في الديمقراطيات الغربية هي مجال للمواجهة بين الأفكار السياسية والبرامج الحزبية. وما الامر اليوم كذلك.
فقد تطورت قواعد اللعبة السياسية، منذ عقدين او ثلاثة، باتجاه تقارب المواقف وتشابه الرؤى، بل باتجاه تساوي الخيارات تساويا هو بمثابة انعدام الخيار. اما ما يجعل الوضع في بريطانيا أسوأ فهو ان نظامها السياسي «منعطب» او مكسور، باتفاق الجميع.
ذلك ان القانون الانتخابي القائم لم يعد مواكبا للواقع السياسي. قانون صمم للحسم بين متنافسين اثنين في ظل ثنائية الاستقطاب الحزبي (بين المحافظين والليبراليين حتى الثلاثينيات ثم بين المحافظين والعمال منذ الحرب العالمية الثانية) على أساس الأغلبية البسيطة. ولكن الساحة السياسية أصبحت منذ سنوات متشظية بين ستة احزاب او سبعة بما يجعل التحول إلى نظام التمثيل النسبي (على الطريقة الألمانية المتحفظة او الإسرائيلية المتفلتة) «ثورة» سياسية واجبة تجرم الطبقة السياسية البريطانية ان هي تمادت في تجاهل وجوب القيام بها. 
ثورة واجبة ولكنها لا تعدو تعديل عقارب ساعة القانون الانتخابي لتمكينه من اللحاق بالواقع الحزبي، اي مجرد تحديث النظام الديمقراطي حتى يصير معاصرا للمجتمع! الا ان الأحزاب التقليدية (بما فيها الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي كان يناضل طيلة عقود من اجل الأخذ بنظام التمثيل النسبي) لا تزال متشبثة بنظام الأغلبية البسيطة الذي يسميه البريطانيون، في استعارة من عالم سباق الخيول، نظام إسناد الفوز إلى «اول من يحرز قصب السبق»، حتى لو كانت النسبة التي يحرزها اول المتنافسين ضئيلة جدا بسبب تشتت الأصوات في الدائرة الانتخابية الواحدة بين خمسة مترشحين او ستة. 
وهكذا فالمرجح ان كاميرون ـ تماما مثلما حدث في انتخابات العقدين الماضيين ـ سوف يستمر في حكم البلاد رغما عن أربعة من كل خمسة ناخبين، اي ان حوالي ثمانين بالمائة من المواطنين ليس أمامهم من خيار سوى القبول القهري بان يحكمهم في الاعوام الخمسة القادمة سياسي لا يريدونه. حاكم «شرعي» لا دعم له الا من خمس الناخبين!
وهذا لعمري ما كان ليخطر لفيلسوف بريطانيا الليبرالي جون ستيوارت ميل على بال او خيال. كان يعتقد ان اكبر خطر محدق بالديمقراطية هو «طغيان الأغلبية»، فإذا ببريطانيا المعاصرة تثبت العكس: اذا ارادت بلاد ان تنتهي مدة صلاحية نظامها الديمقراطي، فما عليها الا ان تقع، بحكم الالف والعادة، في مأزق التسليم الدستوري بحتمية «طغيان الأقلية».
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق