بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 23 مايو 2015

«نكتة» الإجماع الغربي حول حرية ازدراء الأديان

أفضى الهجوم المسلح على مجلة شارلي إيبدو الفرنسية، وما أعقبه من مظاهرات عارمة أوائل هذا العام، إلى تجديد حالة إجماعية لدى مختلف المجتمعات الغربية حول قدسية حرية التعبير وإطلاقيتها في جميع الأحوال، وحول سرمدية الحق الإنساني في «حرية التجديف» العابرة للمجتمعات والثقافات والأديان. حالة إجماعية الجوهر، تضامنية المظهر، اسمها «أنا شارلي» أو «كلنا شارلي». حالة إجماعية إسمنتية مسلحة مؤداها أن حق الاستهزاء والاستفزاز يعلو ولا يعلى عليه، وأن كل شيء في سبيل «النكتة» يهون. 
ولهذا فقد كان من اللافت أن تنشق بعض الأصوات الثقافية على هذا الإجماع الذي تحول هو ذاته إلى نكتة لفرط ما هو سهل منبسط خال من التضاريس! وقد أتى الانشقاق الأول من العالم الأنغلوساكسوني، حيث احتجت مجموعة من الكتاب والروائيين (تلبية لمبادرة أطلقها بيتر كاري، ومايكل أونداتجي، وفرانسين بروز، وتجو كول، وراشيل كوشنر وطاي سلاسي، ثم انضم إليها آخرون مثل جونوت دياز، وجويس كارول أوتس، ولوري مور وسواهم) على قرار المركز الأمريكي التابع لجمعية القلم الأدبية والحقوقية العالمية PEN إسناد «جائزة الشجاعة في حرية التعبير» لشارلي إيبدو في الخامس من هذا الشهر. إذ ندد هؤلاء في رسالة وقع عليها حوالي 250 مثقفا بالجريمة التي أودت باثني عشر من موظفي المجلة، ولكنهم قالوا إن «هنالك فرقا حاسما بين الدفاع المستميت عن التعبير الذي ينتهك المقبول والمتعارف، وبين الاحتفاء التكريمي بهذا التعبير». ذلك أن «المجلة تبدو مخلصة تمام الإخلاص في تعبيراتها الفوضوية عن ازدراء الديانات الرسمية. إلا أنه عندما تكون فئات المجتمع غير متكافئة، فإن الآثار المترتبة على تكافؤ الفرص في مجال الإساءة وجرح المشاعر لا تكون آثارا متكافئة».
ولم يتردد المحتجون في القول بأن رسوم شارلي إيبدو «لا يمكن أن ينظر إليها إلا على أنها تتقصّد إحداث مزيد من الإذلال والإيلام» بالنسبة إلى «فئات من السكان تشكّل مصيرهم بفعل التركة الناجمة عن مختلف حملات فرنسا الاستعمارية، فضلا عن أن فيهم نسبة معتبرة من المسلمين المتديّنين».
وقال بيتر كاري، الذي سبق له أن فاز بجائزة البوكر مرتين، إن منظمة PEN قد تجاوزت هذه المرة دورها المعهود: أي حماية حرية التعبير ضد قمع الحكومات. وأضاف أن «ما يعقّد الأمر هو أن PEN تبدو متعامية عن العجرفة الثقافية للأمة الفرنسية التي لا تقرّ بواجبها الأخلاقي نحو فئة واسعة من المستضعفين في صلب مجتمعها». وقد عبر الصحافي أميتافا كومار عن النقطة ذاتها بطريقة مختلفة قائلا: «عند النظر إلى الحروب التي تشن على شعوب بأكملها وإلى الواقع الوحشي الذي يفرضه الاحتلال، إضافة إلى الحكم الثيوقراطي، في الشرق الأوسط، لا بد من التساؤل إن لم يكن من الأوجب والأوكد أن ندافع عن الذين يدركون (ويواجهون) العنف الأكبر والذين ينتفضون ضد مختلف مظاهر جبننا وتواطئنا».
وبعد التذكير بأن كثيرا من الفنانين والكتاب في الدول غير الغربية يكافحون في سبيل حرية التعبير دون أن يسمع بهم أحد في الغرب، يعرب كومار عن الأمل في أن تؤدي رسالة الاحتجاج هذه إلى وقفة صادقة مع الضمير. إذ «قبل أن نأخذ في التصفيق (للفائزين بالجائزة)، فلنتساءل إن لم نكن في حقيقة الأمر نصفق لأنفسنا». 
ولعل أقوى المواقف، من حيث وجاهة التعليل ودقته، هو الذي عبرت عنه الأديبة الأمريكية دبورا أيزنبرغ في مراسلاتها مع مديرة PEN التنفيذية سوزان نوسل، حيث قالت إنه «رغم ما يبدو من ازدراء شارلي إيبدو لجميع الأديان الرسمية، فالحال أن التعبير عن اللاسامية محرّم قانونا في فرنسا، ولهذا فإن الديانة اليهودية ممنوعة على النقد الساخر منيعة عليه. بل إن شارلي إيبدو فصلت صحافيا لأن أحد تعليقاته تضمن ما زعم بأنه مذمّة أو شتيمة معادية للسامية. والحاصل أن شارلي، في مسعاها للتهكم الشامل على الديانات الرسمية الكبرى، قد اقتصرت تقريبا على الكاثوليكية والإسلام. ولكنّ لهاتين الديانتين مكانتين مختلفتين بالغ الاختلاف في فرنسا وفي معظم العالم الغربي. فالكاثوليكية قد مثلت، في أدوارها الأوروبية الأكثر مدعاة للأسف، قرونا من القمع التسلّطي والجور السلطوي. أما الإسلام فإنه يمثل، في أوروبا الحديثة، بضعة عقود من قلة الحول والقوة ومن الاستضعاف القانوني. والنتيجة، في السياق الأوروبي المعاصر، هي أن النقد الساخر للكاثوليكية والنقد الساخر للإسلام لا يتعادلان على كفتي الميزان».
٭ كاتب من تونس
مالك التريكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق