بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 18 مايو 2015

◘ «البرج» لوليام بطلر ييتس: رغبات القلب ومطالب العقل

«... ولم يكد عام 1928 يحل حتى أصدر وليام بطلر ييتس ديوانه «البرج»، الذي بلغ فيه الذروة في فنه واحتلّ به مكانه الممتاز، ليس بين شعراء إنكلترا فحسب، بل بين أئمة الشعراء الأوروبيين. والديوان غني بالبيان، مملوء بالنغمات المتنوعة، متعدد النواحي، يتميز بسلاسة اللفظ وانطلاق التعبير، عالج فيه ييتس قصائده ومواضيعه بروح درامية
تجعل لكل منها حركة وحياة. وليس ما يقلل من قيمة هذه الروح تدخل الشاعر في بعض القصائد ليقدم لنا مغزى معيناً. وقد نجح ييتس كل النجاح في التوفيق بين رغبات القلب ومطالب العقل...». كاتب هذا الكلام عن ديوان «البرج» للشاعر ييتس، هو الناقد والأكاديمي اللبناني سهيل بشروئي، الذي يعتبر الى جانب العراقي عبدالواحد لؤلؤة، في طليعة الذين قدموا الشعر الإنكليزي، وخصوصاً الرومانسي والحديث منه، الى القراء العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين. أما ديوان «البرج»، فهو مجموعة شعرية أصدرها وليام بطلر ييتس في مرحلة نضوج كبرى في مساره الشعري، حتى وإن كان بعض قصائدها قد كتب قبل ذلك بفترة، أي بين 1919 و1920. ولعلّ أول ما يمكن للقارئ أن يلاحظه في قصائد هذه المجموعة، هو أن ييتس قد بدا فيها متخلياً عن نزعة جمالية خالصة كانت تميز شعره سابقاً، وتدفعه في اتجاه تعبير رمزي ينأى به، ولو شكلياً، عن المصائر السياسية لبلده أيرلندا، الذي كان، في تلك الحقبة بالذات، يعيش مرحلة حاسمة من نضال استقلاله عن إنكلترا.

> في شكل أساس، حتى وإن كانت أيرلندا حاضرة، ولو في أشكال غير مباشرة، في بعض قصائد هذا الديوان، يغلب على المناخ العام فيه اهتمام مزدوج من جانب الشاعر، اهتمام يقوده من ناحية الى الفكرة والأسطورة اليونانيتين، ومن ثم الى بيزنطة، ومن ناحية ثانية الى مبادئ الفكر الهندي. وفي الحالين، كان واضحاً أن ييتس إنما يسعى بكل جوارحه الى الاستعانة بتلك العوالم القديمة، لكي يعبر عما كان يعتمل في روحه في ذلك الحين من رغبة في الانتصار للحياة معبراً في طريفه، كما كان يحلو له هو أن يقول، عن «نضوجه الشخصي وعميق تفكيره» موحياً إلينا، وفق العديد من دارسي أعماله، بأنه «قد عرف سرّ الحياة وتذوّق حلاوتها حتى أنها باركت قلبه وشفتيه»، فانطلق «كالبلبل الصداح يغرد متعبداً في محرابها، يتغنى بجمالها ويمجد بهاءها»، وفق تعبير بشروئي الذي يضيف: «فهو الآن بعد أن أحسّ بوطأة الشيخوخة، قد قبلها من دون مضض، وبدأ يفلسف معناها، ويجد لها تحليلاً مقبولاً، ويذهب في رفعها الى درجة سامية كما فعل في الأبيات الافتتاحية لقصيدة «الإبحار الى بيزنطة»...».
> والحقيقة أن هذه القصيدة التي يشير إليها الناقد هنا، تُعتبر من أهم ما في ديوان «البرج»، بل كذلك تعتبر مفتاحاً لفهم مسار ييتس كلّه في مجال تعامله مع الكون والحياة... فهو هنا، وفي ما يتعدى نظرة بشروئي الجمالية الخالصة، يحلم بعالم متحرر من كل أنواع العبودية... هذه العبودية التي هي في رأيه مصير بشري يولد الفساد والدم المراق. بيد أن ييتس إذ يعبّر عن هذا الحلم، في ما يشبه الدعوة الى تحقيقه، لا يتوانى في نهاية الأمر عن الإقرار بأن الحلم قد يبقى حلماً، وبأن الإنسان لا يمكنه، مهما فعل ومهما كانت نياته، أن ينجو من تكاليف الزمن وأعبائه... هذا الزمن الذي - مع هذا - يجد أنبل التعبير عنه في إنسان الفعل، الذي يتناقض هنا مع إنسان التأمل الجامد. ومن هنا، كل ذلك الإعجاب الذي يعبّر عنه ييتس بالبطل القومي الأيرلندي بارنل. وهو إعجاب ما كان يمكن لأحد من قبل أن يتصوّر إمكان وجوده لدى شاعر جمال وفن مترفع من طراز ييتس، كان قد عبّر في أشعاره كما في كتاباته النثرية السابقة عما يكاد يبدو انتماء الى نزعة «الفن للفن» التي كانت سائدة في ذلك الحين. إذاً، هنا، يبدو واضحاً أن ما يسعى ييتس الى التعبير عنه، وربما أيضاً الى الدعوة إليه، إنما هو التعايش بين عالمين يبدوان متعارضين، عالم المطلق وعالم النسبي، ما يحيلنا في قصيدة أخرى من الديوان نفسه الى الفكر الأفلاطوني، المثالي والعملي في الوقت نفسه. ويرمز ييتس الى هذا، خصوصاً، من خلال أسطورة «ليدا»... ففي هذه الأسطورة، لدينا زيوس وهو يبحث عن حسناء من هذه الدنيا هي ليدا، غير أن ليدا، بدلاً من الاستجابة المباشرة لزيوس ورغباته، تفضّل أن تلتجئ الى حيوان (هو البجعة)، من دون أن تعرف أصلاً أن زيوس إنما كان قد تماهى مع هذه البجعة... تحت اندفاعة الرغبة التي كانت قد دفعته الى النزول الى عالم الصيرورة... أي عالم الإنسان. وعلى هذا النحو، يصف لنا ييتس في شعره كيف يتم التوحّد بين المتجاوز والفاني في حلقة أبدية خالدة.
> انطلاقاً من هذه الفكرة إذاً، أي فكرة التلاقي بين المتجاوز والفاني، بين السماويّ والدنيويّ أي في كلمات أخرى، بين المطلق والنسبي، يجد تبريره لدى ييتس ذلك الاهتمام الذي يبديه في هذه القصائد نفسها، وفي شكل أيديولوجي خالص، بالرمز الهندي المتمثّل في تلك الأفعى الشهيرة التي يصوّرها المنطق الهندي - الوعظي الى حدّ كبير -، وهي منهمكة في عضّ ذنبها الخاص. صحيح أن هذا الرمز يعبّر، في الفكر الهندي، عن الخلود... ولكن منظوراً إليه من بعد مادي خالص، من بعد يكاد يكون دعوة أخلاقية.
> ويرى الباحثون أن التركيبية البادية، في كل وضوح، في هذه الأفكار التي تنهل من الفلسفة كما تنهل من الميثولوجيا، دانية في الوقت نفسه من السياسة، إنما تجد تعبيرها الأهم في قصيدة «البرج» التي أعارت عنوانها الى الديوان ككل. فالحال أن «البرج» الذي يجري الحديث عنه هنا، إنما هو، في الأصل، ذاك الذي كان ييتس نفسه قد اشتراه في مقاطعة غالواي، والذي سرعان ما صار بالنسبة إليه إشارة الى تطلّع كل إنسان الى التجاوز والسماوات العليا. واللافت في هذا كله، أن نص قصيدة «البرج» في بعده الميتافيزيقي الخالص، يبدو شديد التناقض مع الوصف المادي والعملي الذي يتحفنا به ييتس للحرب الأهلية الإسبانية، في ما لا يقل عن ثلاث من قصائد هذه المجموعة، وهي: «ثلاثة نصب»، «تأملات حول الحرب الأهلية»، وأخيراً «ألف وتسعمئة وتسعة عشر»... والواقع أن هذه القصائد هي التي جعلت عدداً من النقاد يرفضون جزءاً من ديوان «البرج»، معتبرينه طافحاً بالأيديولوجيا وبالسجالات المادية البحت، التي تتناقض في شكل عام مع هموم ييتس الشعرية المأثورة. بيد أن هذا لم يمنع كل الذين كتبوا عن هذه المجموعة، كما عن شعر ييتس في صورة عامة، من أن يروا أن الشاعر أوصل موسيقى الشعر وإيقاعه هنا، وكذلك ثراءه بالصور، الى مستويات ندر أن وصل إليها الشعر الإنكليزي قبله.
> وُلد وليام بطلر ييتس عام 1865 ومات عام 1939. وهو على رغم شهرته كشاعر ساد شعره الثلث الأول من القرن العشرين، كان أيضاً من رواد كتابة المسرح الشعري، كما كان من مؤسسي حركة الحداثة في المسرح الأيرلندي ككل. وإذا كان ييتس قد مُنح جائزة نوبل الأدبية في عام 1923، فإنه كان ذا فضل كبير أيضاً في إحياء التاريخ الأيرلندي كله، أدباً وشعراً ومسرحاً، ناهيك عن كونه لعب دوراً أساسياً في تعريف العالم كله بالكاتب المسرحي مواطنه جون ملينغتون سنغ. واللافت أن ييتس الذي بدأ حياته الفكرية والفنية متّبعاً نزعة جمالية مترفعة عن كل ما هو دنيوي، عاد ليُنتخب في عام 1922 عضواً في مجلس الشيوخ الأيرلندي، تقديراً له من أبناء وطنه الذين انكبّوا يقرأون شعره، على رغم صعوبته، ويرون حتى في سماته الأكثر غرابة ورمزية، إشارات الى الوطن ونضالهم في سبيله، ما جعل ييتس بالتدريج، شاعر أيرلندا الوطني الأول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق