بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 مايو 2015

◘ الإصطفاف الثقافي

ما الذي تغير في وطننا العربي؟ كانت المعارضة، في المغرب مثلا، تستغل أي موعد زمني، أو حدث سياسي أو اجتماعي للدعوة إلى التجمهر، وتستحث الجموع للخروج إلى الشارع للتعبير عن الرأي الآخر، والاحتجاج. 
مناسبة أول مايو/أيار يتم الإعداد لها خلال مدة طويلة، وحين كانت إسرائيل ترتكب إحدى فظائعها في حق الشعب الفلسطيني أو اللبناني، تكون المظاهرات والمسيرات في مختلف
الساحات العمومية بحماس وصدق واقتناع. وكلما اتخذت أمريكا قرارا يمس الوجدان العربي، وهي تدعم إسرائيل، تظل الجموع من كل الأطياف السياسية والنقابية والثقافية تجوب الشوارع. وعند احتلال العراق لم تنقطع المسيرات والمظاهرات التي تدين وتستنكر. 
كان التعبير عن الاحتجاج ينزل الجماهير الغاضبة إلى الشوارع للتعبير عن رفضها للسياسات المتبعة، كلما مُس القوت اليومي أو استُفزت الكرامة الوطنية أو العربية. وكانت الدولة أحيانا كثيرة، ولاسيما في السبعينيات والثمانينيات تضيق الخناق على تظاهرات عيد الشغل، بل وتمنعها من اتباع الشوارع التي اعتادت على التظاهر فيها؟ 
فما الذي جرى هذا العام حتى اختارت النقابات ومن ورائها الأحزاب والجماعات الاجتماعية المختلفة التعبير عن «الاحتجاج» برفض الاحتفال بعيد الشغل؟ وعدم الخروج إلى الساحات للتنديد والاستنكار؟
هل هذا الرفض تعبير عن رؤية جديدة، للاحتجاج على الحكومة بمناسبة الاحتفال بعيد العمال؟ أم أنه تعبير عام عن «اصطفاف» ثقافي جديد يقضي بعدم اتخاذ أي موقف من الصف، أو احتلال أي موقع فيه، حيال ما يجري في الساحة العمومية، سواء ارتبط الأمر بزمان أو حدث؟ 
خلال العدوان الثلاثيني على العراق، كانت المسيرات كل يوم أحد تملأ الشوارع الفرنسية ضد الحرب على العراق تندد بالحرب وتدعو إلى إيقافها؟ ما يجري الآن في الشام واليمن يفوق كل أفعال التقتيل والتدمير الذي مورس في العصر الحديث، منذ الحرب العالمية الثانية، لكنه شأن لا يهم الساحة العربية ولا العالمية. 
باسم الحرب على الإرهاب تقع التحالفات المختلفة لإلحاق المزيد من الأضرار التي تمس الإنسان والبيئة، وتشريد العائلات، واستنزاف الطاقات ونشر الرعب الممنهج وتدمير البنيات التحتية، واستهداف المدنيين والأماكن المقدسة والآثار… ولا من يقول: كفى من الحرب. نريد السلام. 
هل بالحرب يمكن إيقاف الحرب؟ وهل باسم الاصطفاف ضد الإرهاب يحارب الإرهاب؟
تداخلت الاصطفافات وتشعبت التدخلات: في الشام والعراق، نظام يحارب الإرهاب، ومعارضون يحاربون النظام والإرهاب. ومتطرفون يحاربون النظام والمعارضة، وتحالف دولي يحارب المتطرفين. والمستهدف في كل هذه الحروب: البلاد والعباد. وفي اليمن ميليشيات تحارب جيشا يدعمه تحالف عربي. هل هذه حروب ضد الإرهاب؟ أم أنها حرب طائفية؟ أم اقتصادية؟ أم دينية؟ أين حدود كل هذه الاصطفافات؟ الشيعة الإيرانيون وحزب الله يحاربون في العراق والشام واليمن، ويرونها حربا مقدسة، ولا يرون ذلك تدخلا في شؤون البلاد التي يتدخلون فيها؟ ويعتبرون التحالف الدولي والعربي تدخلا أجنبيا؟ والتحالفان يريان التدخل الإيراني أجنبيا. 
ووسط هذه المعمعة لا أحد يرى في الحرب عملا شنيعا ضد الإنسان. فهل مات الضمير العربي والإنساني؟ ولا أحد يريد إنهاء المأساة؟
لا الرأي العالمي، ولا الجامعة العربية ولا العالم الإسلامي يريد الاصطفاف لإنهاء هذا العنف. أهناك رغبة ملحة لممارسة الحرب ليس على الإرهاب، ولكن على الأرض، (ومن فيها) التي يمكن للإرهاب أن يخرج منها؟ بهذا يمكننا تفسير هذا التواطؤ الصريح الذي يريد إدامة هذه الحرب التي كانت بدايتها مع التدخل الأمريكي منذ التسعينيات إلى الآن.
جاء الربيع العربي ليعلن اصطفاف الشعب إلى جانب الشباب ليقول: نعم للحرية، لا للفساد. وكان الثمن باهظا. ومن تداعيات هذا الربيع يتفجر الوضع فإذا العراق والشام واليمن على أتون حرب لا تنتهي. ولا من يدين أو يستنكر أو على الأقل يطالب بإنهاء هذه الحروب الكارثية. أمريكا تعلن «حيادها»، في حرب النظام السوري على شعبه.
ولكنها تتدخل عندما رأت «داعش» تتمــــدد في المنطــــقة. وفي اليمن سارعت إلى استعراض أساطيلها عندما رأت الطائرات والسفن الإيرانية تصطف بالمكشوف أمام مليشيات الشيعة، فهل ينذر هذا الوضع بحروب أخرى تمس المنطقة بكاملها؟
لماذا لا يتحرك الضمير العربي والإسلامي والعالمي لإنهاء المهزلة؟ لمصلحة من يستمر هذا الاستنزاف الذي يطول الإنسان العربي والأرض العربية؟ ما هي ردود أفعال المجتمعات السياسية والمدنية العربية؟ أين دور المثقفين والنقابات والشعب؟ أسئلة كثيرة تطرح، غير أنها ذات معنى. لقد سلبت الإرادة ومات الوجدان.
باسم محاربة الإرهاب خيضت حروب استنزافية ضد العرب والمسلمين، وها هم يخوضونها ضد أنفسهم. حرب ألهت الجميع، وصفق لها الجميع، وساهم فيها الجميع، إلى حد أنها صارت حربا بلا معنى، وغير ذات جدوى.
إنها حرب فرقت الصفوف، وأزاحت أي اصطفاف ثقافي أو اجتماعي أو حتى إنساني. وحتى الاحتفال العادي بفاتح مايو صار الامتناع عنه هو الاحتجاج.
قتلوا الاصطفاف الثقافي ضد القضايا العادلة، فصارت الصفوف متفرقة، والكل يتفرج على مسرحية هم كتابها وأبطالها ومخرجوها والمتفرجون عليها. 
ولا أحد يريد إنهاء المسرحية المأساة ـ الملهاة. ضعف الطالب والمطلوب.
*سعيد يقطين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق