بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 12 مايو 2015

القومية في مواجهة البلقنة وملوك الطوائف - عبدالحكيم صلاح

لطالما حذر الزعيم الراحل ياسر عرفات قي سبعينيات القرن الماضي من البلقنة وكذلك من عودة ملوك الطوائف (عندما قام امراء الاندلس ببناء دويلات منفصلة وتأسيس اسر حاكمة من اهلهم وذويهم بعد سقوط الدولة الاموية بلغ عددها اثنين وعشرين امارة متناحرة وصل بها الحد الى  دفع الجزبة للملك الفنسو السادس ملك قشتالة وتستعين به في معاركها ضد بعضها) . منذ أن بدأ هذا النزاع في المنطقة وتحديد في العراق وبعد ذلك في دول الربيع العربي وما رافقه من عنف ودمار ، بدأت تتضح الرؤى والتوجهات لحلول تخرج المنطقة من ازمتها. الغريب أن الحلول التي كثيراً ما تطرح لوقف العنف تثبت أن الغربيين لم يتعلموا من الصيغ الاستعمارية التي أوقعت المشرق أصلاً في هذه المعمعة .
ومن بين كل "الحلول" التي طرحت، كان أكثرها حماقة هو "البلقنة"، أو ما يمكن تسميته في إطار سوريا باتفاقية سايكس بيكو.التي عقدتها فرنسا وبريطانيا في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الأولى بشأن إقليم المشرق التابع آنذاك للإمبراطورية العثمانية . وكان الهدف من الاتفاقية تحديد دائرة نفوذ لكل من الإمبراطوريتين في المشرق عقب هزيمة الأتراك .
كانت تلك الخطوة الأولى التي اتخذتها القوى الغربية لفرض سياسات "فرق تسد" القديمة على شريحة واسعة من الجزء الناطق بالعربية في الإمبراطورية العثمانية . وكانت النتيجة مجرد تغيير سلطة إمبراطورية بأخرى . 
وكان الهدف من "البلقنة" هو إشاعة مزيد من الفوضى في وضع فوضوي أصلاً .
وما نراه يحدث اليوم في المنطقة الهو ثمرة فشل النظام الإقليمي لاتفاقية سايكس بيكو في تثبيت ما يشبه استقراراً دائماً . هذا الفشل كان النتيجة المقصودة للاتفاقية، لأن سياسة "فرق تسد" ترمي إلى التخريب والفرقة، وليس إلى التآلف والوحدة .
واتفاقية سايكس بيكو كانت مسعى "البلقنة" الذي أبقى المشرق تحت رحمة قوى خارجية، وأولئك الذين يقترحون على المجتمع الدولي اليوم "بلقنة" سوريا والعراق واليمن ولبنان إنما هم يكررون ببساطة إخفاقات الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية قبل قرن مضى .
واليوم، "بلقنة" شرق مجزأ أصلاً هي حماقة لأسباب متعددة . ومشروع "البلقنة" كوسيلة لإنهاء النزاع يترجم أساساً إلى تقسيم كل بلد إلى جيوب عرقية ودينية مطوقة، حيث يمكن للسنة، والعلويين، والأكراد، والشيعة وجماعات أخرى، أن يعيشوا "بسلام" في دويلات خاصة تتمتع بحكم ذاتي .
والمروجون لهذا "الحل" كثيراً ما يظهرون الرضا عن فطنتهم (فيما هم يتجاهلون أكثر من ألف سنة من تاريخ يظهر أن مختلف الجماعات في المشرق عاشت معاً في وفاق ووئام"، ولكن يبدو أنهم نسوا مشكلة كبرى: تهديد الجهاديين السلفيين جعل من فكرة الحدود وخطوط التماس الخرقاء أصلاً فكرة غير واقعية ومصطنعة .
هؤلاء المقاتلون يسعون إلى إعادة إقامة خلافة إسلامية ومثل هذه الحكومة الإسلامية ستعلو فوق الحدود السياسية، وتعدد الثقافات واللغات .
 هناك عيب آخر في "البلقنة"، هو أن اختلاق حدود جديدة في أماكن لم توجد فيها أبداً من قبل يؤدي إلى الفوضى، على كلا المديين القريب والبعيد مثال ذلك الهند وباكستان، والقارة الإفريقية .
و"البلقنة" ستعني إثارة مزيد من الفوضى في وضع فوضوي أصلاً . إذ إن كثيرين فقدوا بيوتهم، وموارد رزقهم. ان إقامة دويلات جديدة ستهدد بمزيد من المآسي وعدم الاستقرار . ولا معنى إطلاقاً ل "حل" يفضي إلى مزيد من التنازع في المنطقة .
لقد حان الوقت لنبذ مفاهيم "فرق تسد" القديمة، والكف عن إرغام الناس على الاعتقاد أنهم أكثر تباعداً من أن يعيشوا معاً بسلام .
حان الوقت لمقاومة نماذج استعمار جديد باتت عتيقة، ولا تفيد سوى قوى الهيمنة . وقد حان الوقت للعمل من أجل الوحدة والسلام الدائم، ولكي تبني شعوب المنطقة مستقبلاً لنفسها، وترسخ سلاماً نابعاً من القواعد الشعبية وليس مفروضاً من قبل مؤتمرات دولية
"البلقنة" هي تهديد لمستقبل العرب وهي لن تفعل شيئاً سوى خلق فراغ سلطة في منطقة ابتليت أصلاً بالفوضى . وأولئك الذين يروجون للبلقنة كحل، إما لديهم دوافع خبيثة، وإما أنهم جاهلون بتاريخ التعايش في المشرق  والمنطقة عموما.
وللتغلب على التنازع الأهلي والمذهبي يعني أنه يتعين علينا بناء جسور بين الجماعات، وليس فرض حدود جديدة بالقوة .واعتقد ان الفكر القومي مؤهل اكثر من غيره للملمة الوضع كونه فكرا جامعا يحمل مقومات الوحدة و يتجاوز المذهبية والعرقية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق