بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 مارس 2015

◘ هوبر وهوجل ومسحل - سمير عطا الله

من أجل استلهام قصيدة أو بيت من الشعر، كان الشاعر يذهب إلى الطبيعة الجميلة. قال كثيِّر عزة إنه إذا عسر عليه الشعر «أطوف في الرباع المخيلة والرياض المعشبة فيسهل عليَّ أرصنُه ويُسرع إليَّ أحسنه». وحلت «عروس الشعر» على المعاصرين في منظر النيل أو الثلوج أو مطر السياب أو «البحيرة» التي كتب فيها لامارتين أجمل قصائده.

لكثرة ما كُتب عن الطبيعة، لم يعد لائقًا تقليد القدامى. بحث الشعراء عن رياض لقريحتهم في الحب وما سمّاه المتنبي «الجوى»، وطلبوه في التأملات، ووجدوه في المعاناة، وكتب المحدثون أجمل عطاءاتهم في الشعر الوطني فأغنت النكسات العربية آلامهم، وشذب اليأس أنغامهم، ولم يصمد في فناء الغزل سوى نزار قباني، غير عابئ برصانة الشيب وآثار المشيب.
لا يعاني الكتّاب صعوبات الشعراء. قد يقعون في أزمة «الورقة البيضاء» الباحثة عن حبر، لكن من الأسهل عليهم العثور على سطور دون قوافٍ. ولا أعتقد أن ناثرًا سوف يعاني ما عاناه الفرزدق عندما قال إن قلع ضرس أسهل عليه أحيانا من وضع بيت من الشعر. وفي أيامه كان الحلّاقون يتولّون قلع الأضراس، أو «قبضاي» القبيلة. و«القبضاي» كلمة تركها لنا الأتراك في بيروت وكان علامتها الطربوش المائل والثوب المذهب والعصا الخيزران.
ويقول جورجي زيدان، إن الجاهليين كانوا يعتقدون أن للشعر شياطينه. وعلى رأس هؤلاء اثنان؛ الأول هو الهوبر، وإذا حضر هذا على أحدهم «حلا شعره، وسالت قوافيه، وتدفقت معانيه». أما إذا كان سيئ الحظ فيحل به «الهوجل»، وهو شيطان الجفاف والعِقد والنضوب، فلا قصيد ولا قافية ولا «قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل». وهذا اللعين كان يدعى «الهوجل». وكان للأعشى شيطان خاص به اسمه «مسحل». وأما الحطيئة فكان شيطانه وجهه الذي قال فيه: 
أرى لي وجهًا قبَّح الله خلقه 
فقُبِّح من وجهٍ وقبِّح حاملُه
كان شاعر الماضي يذهب إلى الطبيعة والجمال والرياض المعشبة، أو يمر بديار عبلة وليلى وبرقة ثهمد. والكاتب يبحث عن مواضيعه الآن في الرقة وعين عرب وريف دمشق ودرنة وسرت والحديدة وجرود عرسال وسائر موحيات الوحدة والألفة والأمل.
غاب الشعر وبقيت الشياطين. والأخ «مسحل» شيطان الأعشى، يقوم بدورة يومية على بلاد العرب. أما «الهوجل» فله جولة يومية على برامج الحكي، ويحضر غالبًا، ومعه كبايات وأكواب ورؤوس شتّامة تشبهه إلى حد بعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق