بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 مارس 2015

◘ «عاصفة على آسيا» لبودوفكين: الإمبراطور الدمية يرفض مصيره - ابراهيم العريس

كان المخرج السوفياتي بودوفكين (صاحب الشريط الرائع المقتبس عن نصّ ماكسيم غوركي «الأم»، والذي يعتبر دائماً واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ الفن السابع) قد انتهى لتوه من تحقيق فيلمه الثاني الكبير «نهاية سانت بطرسبرغ» تحية للعيد العاشر لثورة أكتوبر السوفياتية، حين شرع «لكي أرتاح بعض الشيء ريثما أبدأ بفيلم صعب
جديد»، كما سيقول - في تحقيق واحد من أفلامه الأساسية وهو «عاصفة على آسيا» الذي كان يفترض به أن يكون مجرد فيلم وثائقي يصور الشرق السوفياتي الأقصى، تلك المنطقة من الإمبراطورية الشاسعة التي كان الكل يجهل كل شيء عنها، مع أنها كانت في ذلك الحين تشكل جزءاً من «الوطن السوفياتي الكبير». إذاً، في البداية كان يفترض بهذا الفيلم أن يكتفي بتصوير الحياة اليومية، ووسائل العيش الغريبة لدى شعوب تلك المنطقة التي كانت لا تزال تعيش تحت الخيم، ولا تزال تحتفظ بتقاليد موغلة في القدم... ولكن، تدريجاً، سرعان ما اتخذ الفيلم سماته الخاصة، متحولاً إلى فيلم نصف تسجيلي/ نصف روائي، وصار اسمه «حفيد جنكيز خان» قبل أن يعود ليسمى لاحقاً «عاصفة على آسيا»، ويصبح منذ الزمن الذي عرض فيه واحداً من الأفلام الأساسية في تاريخ السينما السوفياتية. بل، سيقال إنه سيكون فيلم/ نبوءة، طالما، أن اليابانيين عمدوا، بعد أعوام قليلة من تحقيق الفيلم وعرضه، إلى وضع إمبراطور دمية، على عرش منشوريا، هو بو يي الذي سيُعرف بعد العروض العالمية لفيلم الإيطالي برناردو برتولوتشي، في الثمانينات من القرن العشرين بـ»الإمبراطور الأخير»... ذلك أن الموضوع المحوري في «عاصفة على آسيا» هو بالتحديد موضوع «إمبراطور»/ دمية يوضع على العرش المغولي، من أجل إحياء عصبية مغولية لمقارعة انتشار الشيوعية والحكم السوفياتي هناك. ومن ناحية أخرى في هذا السياق نفسه، يضيف المؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول، أن عنوان الفيلم نفسه «عاصفة على آسيا» أتى أيضاً على شكل نبوءة، إذ إن القارة الآسيوية كلها ستعرف «عاصفة من التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية أتت لتذكر بما تنطح هذا الفيلم في زمنه ليقوله».

> غير أن تحقق النبوءات، على الصعيد السياسي هذا، لا يجب أن يبعدنا في الواقع عن حقيقة أن مخرج الفيلم بودوفكين، حين شرع في تحقيقه، كفيلم صامت في عام 1929، عن سيناريو كتبه أوسيب بريك (صديق الشاعر ماياكوفسكي) ما كان قصده أبداً أن يحقق فيلماً يحمل كل تلك التوقعات السياسية. كان جل ما يتطلع إليه هو أن يحقق فيلماً عن الحياة اليومية في منطقة حرّكه فضولُه نحوها. ومن هنا كان يحلو له دائماً أن يقول، بعد النجاح الذي حققه «عاصفة على آسيا»، إنه إنما انطلق فيه من ثلاث أو أربع وريقات أعطاه إياها بريك، واحتار أول الأمر في ما ينبغي عليه أن يفعل بها. ثم لاحقاً «أتتني رؤية محددة، كانت أشبه بحلم يقظة: رأيت فيها جندياً يجتاز طريقاً تغمرها الوحول، ويحاول قدر جهده ألا تلوث تلك الوحول قدميه. ولاحقاً، بعد أحداث عدة يعود هذا الجندي عابراً الطريق نفسها، لكنه هذه المرة لا يبالي بالوحول. فما الذي حدث؟ ولماذا كانت هذه اللامبالاة؟» بالنسبة إلى بودوفكين قد لا تكون لهذه الرؤية علاقة مباشرة بأحداث الفيلم، لكنها حملت إليه دلالاتها، هو الذي كان لاحظ في سفر سابق، طبيعة الأراضي السوفياتية الآسيوية، وسأل نفسه: ترى كيف يعيش الناس ها هنا؟
> إذاً للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، راح موضوع الفيلم يتكوّن شيئاً فشيئاً... وهكذا صار للفيلم حبكة، ولم يعد الأمر مجرد تصوير لحياة السكان، وإن كان هذا التصوير - الذي حققه المصور غولوفنيا في شكل رائع، شكّل في ما بعد مدرسة في التصوير السينمائي الطبيعي - قد أتى وثائقياً يغوص عميقاً في حياة أناس بالكاد كانوا سمعوا بوجود شيء اسمه كاميرا أو سينما بالتالي، في هذا العالم.
> تدور أحداث «عاصفة على آسيا» حوالى عام 1920، أي بعد ثلاث سنوات من انتصار الثورة البولشفية في الشطر الغربي من روسيا، وبداية تمدّدها نحو سواحل المحيط الباسيفيكي شرقاً، وجنوباً حتى حدود الصين. في ذلك الوقت كانت جيوش أجنبية بيض، معادية للبولشفيين، تحتل ذلك الشرق الآسيوي في منطقة مونغوليا. والحقيقة إن الفيلم لا يحدد لنا هوية هذه الجيوش في شكل علني، غير أننا ندرك أنها إنكليزية انطلاقاً من تصرفات الجنود والضباط ولباسهم العسكري. وذات يوم يأتي الصياد باهر، ابن المنطقة ليبيع في السوق المحلية للمدينة فرو ثعلب اصطاده ويريد أن يقيم أود عائلته لبعض الوقت بفضل ثمنه المرتفع نسبياً... ويساومه تاجر الفرو على الثمن حتى يتمكن في نهاية الأمر من شراء القطعة الثمينة بثمن بخس... فيغضب باهر، وهو اسم الشاب، وتندلع معركة كلامية ثم تنطلق رصاصات ويصاب موظف في متجر الفرو، ويعلو الصراخ: «إن دم رجل أبيض يسيل بغزارة»... وهنا لا يكون أمام باهر إلا أن يهرب لينضم إلى الأنصار الذين يقاومون الوجود الأجنبي... لكن باهر سرعان ما يسقط في فخ الجنود البيض ويصدر الأمر بإعدامه رمياً بالرصاص. ثم في لحظة تنفيذ الحكم يعثر الضابط في حوائج باهر على وثيقة تثبت أن حاملها هو حفيد لجنكيز خان، ويقرر الضابط انطلاقاً من هذا - مع أن الوثيقة لا تعود أصلاً إلى باهر بل إلى لاما آخر - أن يعلن باهر إمبراطور/ دمية، يحركها وأسياده كما يشاء، من أجل إخضاع السكان... وهكذا تداوى جروح باهر الذي يصبح دمية في أيدي الأعداء. غير أن باهر نفسه يصحو ضميره بعد فترة قليلة من الزمن ويدرك خطورة ما يقدم عليه، وأن ما يفعله إنما هو الخيانة عينها، لذلك يثور مرة أخرى، ويتزعم جماعة من الفرسان، ليخوض معها حرب تحرير حقيقية ضد الأجانب الطفيليين... ويتزايد عدد الثائرين، إذ ينتقلون مظفرين من مكان إلى آخر، وتصبح الثورة عاصفة تجتاح المنطقة بأسرها: تصبح عاصفة حقيقية على آسيا... تبشر بدنو الحكم البلشفي...
> الحقيقة أن فسيفولود بودوفكين، سيقول دائماً إن ما كان يهمه وهو يصنع هذا الفيلم لم يكن حبكته ولا حتى أبعاده السياسية. كانت شاعرية المكان وبراءة السكان في حياتهم الملتصقة بالطبيعة هما ما تهمانه حقاً، هو الذي كان يحلو له أن يقول على الفيلم، كل فيلم أن «الفيلم لا يصوَّر في حقيقة الأمر بل يُبنى بناء، يُبنى بمختلف قطع الشريط التي هي المادة الأولية للفيلم السينمائي». ومن هنا كان حقيقياً ذلك الاهتمام الذي أسبغه الجمهور على فيلم حمل كل غرائبيته، مبدياً - أي الجمهور - إعجابه بالوصف الوثائقي لحياة السكان، في تضافر تام بين الصورة والتوليف. ولقد تمكن هذا التضافر من تحقيق رغبة بودوفكين في تصوير «ذلك الشرق الآسيوي المغولي الفاتن الذي ما كان أحد يعرف عنه شيئاً». غير أن هذا لم يمنع من أن يكون له على الفور تأثيره السياسي أيضاً، إذ عرض في آسيا الوسطى واستخدم من جانب السلطات مادة دعائية رائعة الجمال والتأثير.
> والحال أن هذا ما كان عليه دائماً مصير أفلام بودوفكين (1893 - 1953) الذي يعتبر إلى جانب ايزنشتاين ودوفجنكو، واحداً من ثلاثة مخرجين حققوا للسينما السوفياتية ولا سيما خلال حقبتها الصامتة بعض أجمل أفلامها. وبودوفكين مارس مهناً عدة قبل أن ينصرف إلى المهن السينمائية منذ التحاقه بمعهد الفن السينمائي في موسكو، ثم عمله ممثلاً في عدد من الأفلام. وهو حقق منذ عام 1921 أفلاماً وثائقية عدة قبل أن يحقق عام 1926 فيلمه الأول والأكبر «الأم» متبعاً إياه بـ»نهاية سانت بطرسبرغ» ثم بـ»عاصفة على آسيا»، لتلي بعد ذلك حقبة نشاط متأرجحة تواصلت حتى عام 1953، ولم تنتج على أي حال أي فيلم لبودوفكين يضاهي الثلاثة الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق