بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 مارس 2015

◘ أمين الريحاني واليمن و«دقّة التشوير» وسام سعادة

«جاوب يا فتى. هل تكذب على الأمير فتنتسب، وما الحسن وما الحسين في مثل تلك الساعة؟ اذكر اني في خمس لحظات غيّرت ديني خمس مرات، فكنت انتقل كالبرق من الحسن، الى مارون، الى الحسين، الى دروين. اما اذا اكتشف الامير بعدئذ حقيقة دينك – اصدقه بالخبر يا رجل ولكن – هل تعلن امام الجمع الزيدي الرهيب مارونيتك او مسيحيتك او دروينيتك، قد يوقفونك فيأسرونك، هذا أخف ما في البلية، ومن جهة أخرى أشدها.»
 
بهذه الكلمات يروي أمين الريحـــاني في «ملوك العرب» أوّل حرج اعتراه في أوّل مهبطه بأرض المملكة المتوكّلية، حين التبس الأمر على أمـــير جيش الامام يحيى في لواء تعز. فـ»بعد أن سلّمــنا على الأمير قدمنا له كتاباً من القاضي عبد الله العرشي وفيه يعرفه، اما خطأ واما تلطفاً، الى السيد أمين الريحـــاني، فظـــنني حضرته من اشراف المسلمين وأراد ان يعرف الى اي الفرعين انتسب، فســألني: هل انت حسني أو حسيني؟». 
جرت مداراة الموقف بالنتيجة، وسُمح لأمين، ورفيقه في السفر، قسطنطين يني، بدخول البلاد. كثيرون حاولوا ثنيه قبل ذلك. الانكليز في عدن حذّروه من أن حياته في خطر كمسيحي اذا غامر بالسفر. الشوافع في لحج هوّلوا عليه أمر «الزيود». وهو لم ينس أول يمني صادفه في نيويورك. سأله الريحاني يومها: «او ما يؤذن للسوري وهو عربي مثلكم؟» فأجابه: «اذا كان مسيحياً فهو والفرنجي سواء عند أهل اليمن. وقد يحميه لسانه أو يصرف النظر عنه.» فسأله مجدداً: «واذا انكشف أمره فعرفتموه». فأجابه الرجل «دون ان يغير لهجته الناعمة اللطيفة: والله نذبحه. كأنه يقول نضيّفه ونكرمه».
لم يكن التهويل من خطر «الزيود» يقلّ كثيراً عن التهويل من خطر «الوهابيين»، وفي «ملوك العرب» يقدّم الريحاني عرضاً مشوّقاً عن كيفية وصوله الى ملوك شبه الجزيرة، والسياحة في بلادهم، دون مكابرة على الأخطار المتربّصة، والأهمّ دون الاستسلام للفوبيا. لا «وهابوفوبيا» ولا «شيعوفوبيا» في «ملوك العرب»، وذلك في مرحلة احترابية دامية. التلذّذ بقراءة كتاب الريحاني اليوم، لا سيما فصله عن زيارته اليمن ولقائه بالامام يحيى، هو تمرين صحّي لدرء أنماط الرُهاب التي يُراد لها أن تقوم مقام السرد، والخطاب، والنظر، والتفكير. 
وفي لحظة تنتابها كل أنواع الفوبيا من الآخر، كاللحظة التي يعيشها الشرق العربي حالياً، ولا يسمّى فيها الآخر باسمه، فلا تجد بياناً رسمياً واحداً، لا في اليمن ولا بين العرب ولا على المستوى الدولي، يتحدّث عن مشكلة «الزيود والشوافع»، تجد الريحاني وهو يطرق باب المشكلة أحسن طرق. 
قدم الريحاني الى اليمن عام 1922 «بثياب افرنجية وعقال أحمل جوازاً أمريكياً». يومها لم يكن وارداً أن يشعر بأن «حلف أقليات» يجمعه كماروني بالزيود وبالشيعة في مواجهة الشافعية وعموم السنّة مثلاً، ولا كان وارداً أن يحسب الزيود على الشيعة الامامية أصلاً، لأن ما يميّز المذهب الزيدي في كتاب الريحاني هو «قضاءه على فكرة صاحب الزمان». ويشرح ابن الفريكة: «كأن الزيديين يقولون لخصومهم: اذا أنتم رضيتم بامام موجود دائماً في كل مكان، ولا يُرى في مكان، فنحن لا نرضى. نحن نشتهي ان نرى الامام امامنا ولو في مكان واحد، وفي فترة من الزمان». والريحاني يأخذ بالجمع «زيود» لأن القوم لئن «قالوا في المفرد زيدي لا يقولون في الجمع زيديون بل زيود كأنهم يريدون بذلك ان زيداً متجسد في كل واحد منهم وان امتهم الزيود.»
في حضرة الامام يحيى، لا ينسى حفيد المطران باسيليوس سعادة البجاني ان يشدّد على أنّ نسبه من قحطان، وله في اليمن حصّة. ثم تراه حائراً أمام «وحشية اليمن». والوحشية على ما ينقله هو ما يصف به أهل اليمن أنفسهم، ويعنون به النفور من الغريب. وهو يلحظ تماماً العلاقات المعقدة بين الوحشية والقبلية والمذهبية، وأحياناً يشطح في المقارنات فيقول: «ان الزيود مثل البروتستانت عقيدة وعملاً».
يوم زار الريحاني صنعاء كان الصراع على أشدّه بين امام ا ليمن و»بلاد السيد» أي ما يحكمه الأدارسة انطلاقاً من عسير. محور الصراع كان ميناء الحديدة. وفيها يقول الريحاني انها «كابوس الانكليز في عدن وكابوس الامام في صنعاء. هذا يبغيها ولا ينفك يطالب بها، واولئك، وقد وهبوها صديقهم الادريسي يودون لو كان بامكانهم ان يهبوها كذلك الامام». 
ويستطرد الريحاني «ما العمل؟ أيمكننا ان نقسّم المدينة بين الامامين، الامام الزيدي في اليمن والامام الشافعي في عسير؟ فننجو من الكابوس؟» بعد سنوات من هذا، سيجد الموضوع حلّه بحسم ابن سعود للموضوع كلّه، واختفاء دولة أدارسة عسير من الأساس بعد ان كان المدخل الى ذلك حماية السعوديين لها من توسعية الزيود. 
وفي اليمن نفسها، يشدّد الريحاني على الضيم الذي كان يلاقيه الشوافع على يد الزيود، كما يتوقف عند المسافة بين طموح الامام يحيى الى يمن كبرى، تضم أيضاً عُمان وسلطنات الجنوب ونجران وعسير، وبين فئويته المذهبية وانغلاقه. بأسلوبه الفطن يقول رحّالتنا: «اني على يقين انه لو حكم الامام يحيى حكما مدنيا بحتاً، حكماً عربياً يمانياً لا حكماً زيدياً، لتمكن من تحقيق مطامعه السياسية. 
فالشوافع اذ ذاك يدينون له طائعين راضين، او أنهم يأبون على الأقل أن يكونوا آلة مذهبية في يد أعدائه. أما اليوم فمهما قبل في عدله الجم، وحلمه الشامل، فالشوافع في حكمه غير راضين، والذين في الجيش منهم يحاربون الشوافع اخوانهم مكرهين. ومن المظالم التي يشكونها انه يجمع الزكاة والاعشار منهم بالتضمين كما كانت تفعل الدولة العثمانية في الولايات. والعشّار مثل الجلاد، مكروه في كل بلاد».
الى الشوافع، يظهر الريحاني بعض مما كان يلاقيه اليهود من كراهية واحتقار على يد الزيود. «حدثني السيد محمد قال: يجب على اليهود يا أمين ان يرسلوا السوالف كي لا نظنهم منا اذا شبت الحرب بيننا نحن العرب فنذبحهم خطأ، ويجب عليهم ان يركبوا الحمير فقط لأنهم لم يتعودوا ركوب الخيل والسلامة يا أمين قبل الفخامة (…) وكثيراً ما يتمنى اليهودي الشتيمة طمعاً بنصف الفدان». 
… عندما تقرأ هذا، عليك أن تتريث قليلاً قبل أن تصنّف شعار «اللعنة على اليهود» الذي ترفعه جماعة «أنصار الله» الحوثية من انعكاسات الصراع العربي الصهيوني ليس الا. 
لكن الامام يحيى ليس عبد الملك بن بدر الدين الحوثي، فإنك «لا تجد في ملوك العرب من هو اعلم من الامام يحيى في الاصول الثلاثة، الدين والفقه واللغة»، ويضيف «بل هو الشاعر الوحيد في حكام العرب جميعاً». أما الأسف فمردّه الى ان الامام «في حبه العلم لا يحب على ما يظهر تعميمه». لا بل ان الامام هو الطبيب الوحيد: «ولم تعلم بعد ان الحضرة الشريفة تمارس كذلك الطب. تداوي المريض بالايمان وتشفيه بالصلوات. اجل ان الامام هو الطبيب الاكبر بل هو الطبيب الاوحد في اليمن.» وهو يمتاز فوق ذلك بقوة «التشوير» ودقّته. والتشوير، «مثل العين يصيبك منه الشرّ المقصود». 
ما لا شكّ فيه ان اعادة قراءة ما كتبه أمين الريحاني عن اليمن في مطلع عشرينيات القرن الماضي أكثر متعة وفائدة من متابعة كل «التحليلات الاستراتيجية» الحالية المتعلّقة باليمن وتمدّد الحوثيين والتدخل الجوي السعودي والمتعدّد ضدّهم. على الأقل في زمن الحرب بين الامام يحيى والأدارسة كان يقال عن «التشوير» تشوير وليس «سياسات»، ومعمل انتاج البنادق الذي كان يديره جرجي النمساوي في قصر غمدان كان بالكاد يصنّع أربعة صناديق يومياً.

٭ كاتب لبناني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق