بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 22 مارس 2015

◘ «مسافر دون متاع» لآنوي: لحظة حاسمة بين ما مضى وما سيأتي - ابراهيم العريس

لم يكن الكاتب الفرنسي جان آنوي ليحفل بأن يتحدث عن نفسه. كذلك لم يهتم طوال حياته في شكل عام، بأي نوع كتابي آخر عدا المسرح، الذي كان واحداً من أقطابه في فرنسا أواسط القرن العشرين. وهذا الواقع ربما ينساه كثر في أيامنا هذه، حيث إن آنوي يكاد يغيب عن الذاكرة ونادراً ما يؤتى على ذكره، إلا في مناسبة تقديم عمل له هنا أو هناك، بل حتى تقديم عمل لآنوي يبدو نادراً في زمننا هذا وربما انطلاقاً من واقع لا يفتأ يقول
لنا أن الرجل لم يحفل أبداً بأن يكون مسايراً لأية «موضة». كان دائماً عكس التيار. يكتب وحده. يفكر وحده من دون أن يخضع لأي «ابتزاز أيديولوجي» وفق تعبيره الخاص الذي تبناه عدد من الذين كتبوا عنه. مع هذا، ثمة الكثير من أعمال آنوي لا يبارح ذهن هواة المسرح الحقيقيين، ومن هذه الأعمال «بيكيت أو شرف الله» المسرحية التي حُوّلت فيلماً لافتا في الستينات، و «القبرة» التي تحدث فيها آنوي عن جان دارك في شكل غير تقليدي وغير مسر لكثر من الفرنسيين أيضاً، مصوراً إياها قاسية خرقاء في أحيان كثيرة. وكذلك «أنطيغون» التي حاول فيها أن يقدم صورة شديدة الاختلاف للبطلة الإغريقية التي آثرت القبول بالموت التراجيدي على الذل وتدنيس الكرامة. غير أن الأشهر بين أعمال جان آنوي جميعاً، تبقى مسرحيته «مسافر دون متاع» التي كتبها عام 1937، تطويراً لمسرحية سابقة له عنوانها «كان هناك سجين»، ولعل شهرة هذه المسرحية تنبع من كونها أعمق مسرحيات آنوي من ناحية البعد الفلسفي والإنساني ومسألة علاقة المرء بماضيه... هذه المسألة التي شغلت الناس طويلاً، خلال النصف الأول من القرن العشرين، حين أتت التطورات المتسارعة لتنتزع الإنسان من بلادة الارتكان إلى الماضي، مطالبة إياه بأن يعيش الحاضر ومن ثم المستقبل. فإذا لاح له الماضي عليه أن يحاسبه أو حتى يحاكمه.

> من هنا، كانت الأهمية القصوى لـ «مسافر دون متاع» تكمن في موضوعها: التعامل مع الماضي. ونعني هنا بالماضي، الماضي الخاص بالفرد ومدى استعداد هذا الفرد لمجابهته. ولعل من الأمور اللافتة أن آنوي آثر هنا أن يعالج الموضوع من خلال النسيان لا من خلال الذاكرة. ولسوف نلاحظ أن النسيان هنا متعمد ينطلق من «فقدان» طوعي للذاكرة. وهذا البعد، بالتحديد، كان هو الذي دفع كثراً أواسط ثلاثينات القرن العشرين، إلى مقاربة «مسافر دون متاع» مع مسرحية كان جان جيرودو، الكاتب الفرنسي الكبير الآخر الذي غالباً ما يوضع آنوي معه في خانة واحدة، كتبها عام 1928 في عنوان «سيغفريد» انطلاقاً من أسطورة جرمانية تتحدث عن البطل الذي يفقد ذاكرته. ولكن فيما تناول جيرودو موضوعه على مستوى الأمم، اكتفى آنوي بأن يقدم موضوعاً عن فرد. وهذا الفرد هو هنا غاستون بطل المسرحية الذي يفقد ذاكرته بسبب جرح أصابه خلال الحرب العالمية الأولى، وسيظل جاهلاً كل شيء عن نفسه وعن عائلته ونسبه خلال ما يقارب عقدين تاليين من السنين. لكن غاستون لن يترك لشأنه ولنسيانه، بل ستكون ثمة خمس عائلات تنادي بأنه واحد من أبنائها. وهذه العائلات ستتنافس عليه وعلى احتضانه، مقدمة البراهين والوثائق التي تؤكد أنه ابنها المفقود... ثم بالتدريج، مع تطور الأحداث والسجالات وتقديم البراهين، سيتبين بما يشبه اليقين أن غاستون ينتمي في الحقيقة إلى آل رينو الأثرياء. هكذا، يصبح من الضروري أن تجري هذه العائلة سلسلة من اللقاءات والأحاديث مع هذا الابن المفقود - العائد. وضمن إطار الأحاديث، يكون لا بد للعائلة من أن تنبئ غاستون بأنه كان في صباه قاسياً وعنيفاً وأنانياً في شكل كبير، بل تكشف له أيضاً أنه كان نصاباً لا يردعه وازع أخلاقي. من الواضح أن آل رينو لا يذكرون هذا الماضي على سبيل إدانة الرجل، أو معاقبته. كل ما في الأمر أن هذا يكون جزءاً من كشف الماضي وكشف حقائقه. غير أن الذي يحدث هنا هو أن غاستون، إذ يجد نفسه أمام هذه الصورة التي تبدو الآن واقعية وحقيقية، لماضيه، يبدأ يسائل نفسه عما إذا كان حقاً في حاجة إلى هذا الماضي؟ أبداً... يقول لنفسه. إنه ليس في حاجة إليه. من الأفضل له أن يظل على نسيانه له. ولكن، هل حقاً يمكن المرء أن يعيش شاطباً ماضيه الذي كوّنه، حتى وإن كان الآن يحس بأنه يجب أن يكون على عكس ما كانه في ذلك الماضي؟ الجواب هو: لا، لا يمكن حاضر المرء أن يلغي ماضيه. فإذا قبلت حاضرك عليك أن تقبله بكل مكوناته، حتى تلك التي لا تريد القبول بها. فما العمل؟ ببساطة ينتهي الأمر بغاستون إلى رفض الماضي، بالتالي إلى رفض القبول بالهوية التي ترتبط به. لن يكون ابناً مفقوداً عائداً لآل رينو، مهما كان حجم ما يؤكد هذا الانتماء وصدقيته. وفي هذا الإطار تصل المسرحية إلى ذروتها في الحوار الذي يقوم بين غاستون وزوجة أخيه فالنتين التي كانت في الماضي عشيقته. فهي، إذ يعلن لها رفضه هويته الحاضرة والماضية، تسأله قلقة: «... ولكنك هل تراك مدركاً حقاً ما تفعل؟»، فيجيبها: «أجل، أنا على وشك أن أرفض ماضيّ وكل المكونات الشخصية الناتجة منه، بمن فيها شخصيتي الحالية. أنتم ربما تكونون أهلي وحبي وتاريخي الحقيقي. غير أنني أشعر بأنكم لا تعجبونني أبداً... لذلك أرفضكم». فالنتين: «إنك مجنون. وحتى أحمق. المرء لا يمكنه أن يرفض ماضيه. لا يمكنه أن يرفض ذاته...». غاستون: «أنا ربما كنت الشخص الوحيد الذي مكنته الأقدار من تحقيق الحلم الذي يراود كل شخص. أنا إنسان وأريد أن أكون، أجل أريد الآن أن أكون... طفلاً أولد من جديد، من دون أي ماض. وما هذا سوى امتياز سيكون من الجنون المطلق عدم القبول به. سيكون من الإجرام رفضه. لذا، ها أنذا أرفضكم أنتم. أنا الذي تمتلئ نفسي، منذ يوم أمس بألف شيء وشيء أريد أن أرفضها حقاً». فالنتين: «وماذا عن حبي. ما الذي تنوي أن تفعل بحبي؟ أتراك لست على فضول للتعرف إليه هو الآخر؟». غاستون: «الحقيقة أنني، في هذه اللحظة بالذات، لا أرى منه سوى ذلك الحقد البادي في عينيك...».
> واضح هنا، أن هذا التبادل للحوار يشكل المفتاح الأساسي في هذه المسرحية التي يتجاوز مدلولها، الحدث الفردي الذي تتحدث عنه. أما بالنسبة إلى غاستون، فإنه بعد هذا الحديث يكمل ما كان بدأه، يهرب من هذه العائلة التي تصور له ماضيه مثقلاً بكل ما لا يحب وما لا يريد لنفسه، ليلجأ إلى عائلة أخرى... كانت هي تطالب به. إنه يفضلها، ليس لأنها عائلة فقيرة طبعاً، ولكن لأنها عائلة لا تذكره مبدئياً بأي ماض، تريده كما هو الآن. من هنا، يبدو واضحاً أن غاستون لا يهرب من آل رينو، إنما يهرب من ماضيه. من ذاته. هنا لدى هذه العائلة لا يكون عليه أن يحاسب نفسه على أشياء لا يريد لها أن تطل من أي ثقب في الذاكرة.
> عالج جان آنوي موضوعه الخطير والإنساني هذا، بحزم وقوة، لكن بنعومة أيضاً، وأحياناً بمقدار لا بأس به من المرح الذي يخفي وراءه عمق مأساة الإنسان حين يتعين عليه أن يجابه سؤال ماضيه، وبالتالي سؤال هويته. حتى وإن كان آنوي قد رسم لصعوبة السؤال جواباً غير منطقي طالما أن الإنسان لا يمكنه أن يهرب حقاً مما هو كائنه، فإن الرسالة التي حملتها المسرحية وصلت، مع أنها كانت مبكرة في ذلك الحين: إن إنسانيتنا لن تستقيم إلا إذا بارحنا هويتنا، وانطلقنا في الحياة مما نريد لنفسنا، هنا والآن، أن نكون.
> كان هذا الموضوع، على أي حال، واحداً من الهموم العميقة التي حمّلها جان آنوي (1910 - 1987) مجمل مسرحياته سواء كانت تاريخية أو معاصرة، فلسفية أو هزلية، مسرحيات كتبها خصوصاً خلال العقود الوسطى من القرن العشرين، لا سيما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها وبعدها، هو الذي كان من قلة من مبدعين فرنسيين آثروا عدم مبارحة باريس أو التوقف عن العمل أثناء الاحتلال الألماني، ما جعله يوسم، في شكل أو في آخر، بأنه «تعاون» مع الاحتلال. ومن بين أعمال آنوي الأساسية الأخرى: «الدعوة إلى القصر» و «جزبيل»، و «حفلة اللصوص»، علماً أنه أصدر طباعةً، مجموعات مسرحية عدة حملت عناوين مثل «مسرحيات براقة» و «مسرحيات وردية» و «مسرحيات قارصة» و «مسرحيات تاريخية» و «مسرحيات سوداء» و «مسافر دون متاع» تنتمي إلى هذه المجموعة الأخيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق