بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 مارس 2015

◘ الطيب صالح غازيا ثقافيا سامي البدري

لن آتي بجديد إذا ما قلت أن ثمة، ليس فقط ما يشد، بل ما يسحر المثقف العربي في الحضارة الأوروبية ومروج ثقافاتها النضرة، وبالتأكيد أنا أعني بهذا النزوع والتشوق إلى كل مميزات وثراء مباهج قصر الثقافة والحضارة الأوربيين، من دون سلة نفاياته طبعا، ذلك القصر الذي لفت جميع الأنظار والاهتمام بثراء تأثيثه المعرفي والفكري (الثقافي)، وهذا بالذات ما حاول الطيب صالح الروائي السوداني، وصاحب أكبر انعطافة
فنية في تاريخ الرواية العربية، إيصاله إلينا، عبر صفحات غزوته «موسم الهجرة إلى الشمال» لتلك الحضارة، في عقر دارها. 
لعل أهم ما ميز (غزوة) الطيب صالح عن غزوات من سبقوه من الأدباء العرب إلى ديار (الإفرنجة)، موضوعيته في النظر لمنجز و(أخلاقيات) تلك الحضارة (موضع اتهامها الأول من قبل الثقافة العربية) أولا، وتجرده في تقييم تلك الحضارة وثقافتها، ثانيا، بعيدا عن التعصب والأحكام المسبقة والانفعال البدوي الذي شد طريقة نظر الأدباء العرب، الذين سبقوا الطيب صالح في غزو ديار المستعمِر القديم، ومن منطلق أن الموضوعية والأمانة الفكرية، تفرض علينا مكاشفة النفس، بالجذور البدوية لثقافتنا العربية، التي لم نستطع الفكاك منها، خاصة على صعيد التقييم وإصدار الأحكام المسبقة، التي فرضتها حقبة الاستعمار ورجال العسكر، الذين احتككنا بهم، كواجهة لفعل الثقافة الأوروبية على أراضينا.
يصف الطيب صالح، وعلى لسان راوي «موسم الهجرة إلى الشمال» البريطانيين، مستعمريّ السودان السابقين، لأهل قريته، وبعد أن أقام بين ظهرانيهم سبع سنوات ودرس في جامعاتهم بقوله: «إنهم مثلنا يعملون ويتزوجون وينجبون الأطفال…» وهذا التبسيّط الذي فرضه المستوى المتواضع لثقافة المخاطب، أهل قريته الرابضة عند منحنى نهر النيل، ربما فرضته الأمانة العفوية للراوي، الذي اقتصرت مشاهداته لتلك الحضارة على هيكلية وآليات الحياة البريطانية العامة، من دون الغور في أعماقها الثقافية، خاصة أن الراوي ولد بعد رحيل المستعمِر ولم يشهد ممارساته، بصورة مباشرة؛ وأيضا لم يشهد ـ وهذا ما يحرص الصالح أن يلفت نظر المتلقي إليه ـ إلا الجانب المشرق منها، خلال سنوات دراسته في جامعاتها، هو القروي الذي تدهشه القشور، وتجعله غير منحاز لماضيه في الحكم، وخاصة ـ وهذا ما ركز الصالح على إظهاره في الرواية ـ أن ثقافة الراوي البسيطة أو خلفيته الثقافية القروية، هي التي كانت وراء ذلك التصور، لأنه كان يرى أنه المثقف الوحيد في تلك البقعة المهمشة من قرى السودان.. وهذا ما تؤكده ثورته على بطل الرواية، مصطفى سعيد ابن العاصمة، الخرطوم، عندما يسمعه، في ساعة راحة، تحت تأثير الشراب، يردد أبياتا من الشعر الإنكليزي، وبلغتها الأم، بقوله وهو مهتاج: ما هذا؟ ما الذي تقوله؟ لأنه كان يتصور نفسه المثقف الوحيد في تلك البقعة من الأرض، إن لم يكن في كامل أرض السودان! وكذلك في قوله، في موضع آخر من الرواية، وهو يتحدث عن صديقه محجوب: «خفت من شدة غروري أن لا يفهم ما أقول».
وبرأيي المتواضع، فإن ما عمد إليه الطيب صالح من متوازية بطليّ الرواية، الراوي ومصطفى سعيد، والفرق بين فهم وانفعال وتقبل كل منهما لحضارة مستعمِرهما السابق، إنما جاء لدفع تهمة الانحياز في رصده لمحاسن الحضارة الأوروبية، خاصة أنها تمثل حضارة المستعمِر السابق الذي مازالت آثار ندوب سياطه على جلود السودانيين، ومن دون التوقف أمام مساوئ وإشكالات هذه الحضارة الثقافية، على صعيد التعامل والسلوك الفعلي على مصطفى سعيد، بطل الرواية، لتأثره، بثمرات وألوان هذه الحضارة أو لاستعداده غير الطبيعي، للانسلاخ عن جذوره، خاصة في ما جسدته الرواية، في نهايتها الغائمة، بعودة مصطفى سعيد لأرض تلك الحضارة، بعد أن وجد نفسه عاجزا عن مواصلة الحياة في سكون الموات (الثقافي) الذي تعيشه تلك القرية المنسية (يتعمد الصالح عدم تسميتها إمعانا في إظهار هامشيتها) عند منحنى النيل، رغم أن مصطفى سعيد ـ ولأنه دخل بريطانيا وعاش تجربة حضارتها وهو في سن مبكرة ـ يعود إلى جذوره السودانية البعيدة، والغائمة في ذاكرته، بعد اصطدامه بثقل وعمق تجربته الحياتية في عمق تلك الحضارة وآلياتها (التي دخلها غازيا، كما يردد في مذكراته وحصل وحقق في ظل انفتاحها كل أحلامه وما تمناه) الثقافية المتطورة والمنفتحة ومرارة تجربة ذوبانه فيها، ومن ثم نكوصه إليها مرة ثانية، بعد اصطدامه بضحالة آليات ثقافة جذوره (السودانية) وسباتها واستمرارها على منوالها الأول نفسه الذي دفعه للهروب منها في بداية حياته وهو صبي، رغم أن ذلك الهروب جاء بناء على نصيحة واختيار راعييه الإنسانيين، مستر ومسز روبنسن، اللذين وجدا أن حتى محيط ثقافة القاهرة سيكون ضيقا عليه ولن يحتوي قدراته العقلية.
ولكن، وبما أننا هنا بصدد التركيز على النظر في الجانب السيكولوجي لهذه الإشكالية، أجدني مضطرا للقفز على جميع الجوانب العملية والعلمية والتنظيمية، اقتصادية واقتصاد سياسية، والتي هي من ثمار دراسات مصطفى سعيد في جامعات تلك الحضارة (حضارة وثقافة الآخر) التي سعى لتطبيقها في (ثقافة) تلك القرية المهملة، من أجل الارتقاء بها وبواقعها الزراعي المتخلف، لنصل إلى مناقشة الآثار الفكرية والنفسية التي خلفتها ثقافة مصطفى سعيد (المستوردة) في حياة وطرق تفكير وذائقة فلاحيّ تلك القرية وزوجته حسنة، على وجه الخصوص، كنموذج لها، والتي اقترن بها بعد عودته إلى وطنه الأم، وبصفته ممثلا ـ ثقافيا وحضاريا ـ لثقافته المكتسبة.. ورغم أن رجال القرية شدهم (علمه وسلوكه الرصين وأدبه الجم) إلا أن أثره الثقافي لم يظهر إلا في حياة حسنة، دون باقي نسائها ورجالها، بمن فيهم الراوي، بطل الظل في الرواية، أو المعادل الفني لا الموضوعي لمصطفى سعيد، باعتباره قد خاض تجربة الاقتراب من ثقافة (الآخر) من دون استيعابها أو تمثلها، كحراك ومفتاح تغيير.
فحسنة، وبفضل اقترابها من صميم حياة مصطفى سعيد كزوج (آخر) لا يشبه الأزواج/الرجال الذين من حولها، وقفت على شذرات من ثقافته المختلفة، التي تمثلت في تفهمها، على الأقل، لنكوصه عن جمود ثقافة القرية وسطحيتها، إن لم نقل تمسكها وإصرارها ـ القرية/السودان ـ على ذلك الجمود أولا، ولإخلاصها القائم على الوفاء لذكراه، لما لمسته فيه من اختلافات ثقافية و(تحضر) على مستوى التعامل الإنساني والاحترام لكينونتها الأنثوية المزدراة في ثقافة القرية، وحبه لها لذاتها ثانيا.. وأيضا لامتلاك هذا الزوج (الآخر) والمختلف عن ثقافة رجال القرية، ما يميزه على مستوى المشاعر والعمق ثالثا، رغم تصريحه، في مذكراته الخاصة، التي يكشفها لنا الراوي في ما بعد، عن سلوكياته الانفعالية، كغاز جنسي مع النساء وتسببه للكثير منهن بالألم والأذى النفسي.
حسنة التي رملها نكوص وهروب مصطفى سعيد المفاجئ إلى ثقافته الأوروبية، في موسم هجرته إلى الشمال، ووفاءً منها لذكراه، كآخر مختلف ومتوفر على ما شدها وأدهشها من ثقافته المكتسبة، نراها تسلم مفتاح غرفة مكتبه الخاص، التي يشبه سقفها ظهر الثور، والتي لم تدخلها ولم يطلعها على أسرارها، إلى بطل الرواية الظل، الراوي، لينفذ فيها وصية زوجها وفي ولديه أيضا، وإبداء الرأي أو تقرير مصير تركة فقيدها الثقافية والفكرية، والمتمثلة في مكتبته التي تحتل جدران تلك الغرفة، التي لا تشبه غرف القرية؛ وكذلك في تركته الروحية المتمثلة في مذكراته الخاصة، رغم أن ذلك التنفيذ قد بلغ حد انتقام الحرق، لفظاعة سلوك وقيم صاحبها، تخلصا من أكذوبة ظهور أو مرور مصطفى سعيد في تلك القرية، بحسب الراوي، ولتفوّق (أعاجيب) ثقافة سعيد على ثقافة ووعي واستيعاب الراوي، القروي الذي لم يستطع الخروج من جلد ثقافته المحلية، رغم عيشه لسبع سنوات في بريطانيا ودراسته لحياة أحد شعرائها في جامعاتهم… هل لأنه كان محصنا ـ بثقافته المحلية ـ ضد عدوى جرثومة ثقافة الآخر ـ كما سماها مصطفى سعيد ـ أم لأنه لم يستطع هضم إلا قشور الحياة اليومية لتلك الثقافة؟ وهل انغماس مصطفى سعيد في رغباته، بسبب وفرة أساليب إشباعها في ثقافة الآخر، هي جزء ثقافي من ثقافة الآخر، أم هي مجرد انحراف في تكوين وذائقة مصطفى سعيد الفطريين، ساعدت الوفرة على إظهاره وإنضاجه؟ مصطفى سعيد يقول إنه ورث جرثومة العدوى من أيام استعمار الآخر الذي يغزوه من أجل استرجاع الحق.. أما ثقافيا فنقول إنه انحراف في السلوك والذائقة، وكان عليه أن يكسب من الثقافة المتطورة ما يهذبهما. 
كما أن حسنة، ولنقل انبهارا منها بثقافة مصطفى سعيد، وما مثلته لها من انتقالة نوعية في توجيه وعيها وذائقتها، ترفض الزواج بغيره من رجال القرية، بعد رحيله، لانغماسها وتلذذها بقيم ثقافة تعامله معها (المختلفة أم الأكثر تحضرا من ثقافة محيطها القروي؟) كأنثى، وعندما تجد إصرارا من أهلها على تزويجها، تضطر للطلب من بطل الظل، أن يتزوجها، من أجل أن يخلصها من الزواج من (ود الريس) العجوز (الذي عقله في رأس ذكره) كما تصفه بنت مجذوب، لأنها توسمت به، ومن خلال ثقة مصطفى به، ومن خلال دراسته في مكان (ثقافة) زوجها المتحضر نفسه، في أن يكون متميزا بثقافة تعامل مصطفى نفسها، ذي الثقافة المختلفة، إن شئنا عدم استخدام كلمة المتحضرة، طمعا في تخليصها من عملية الاغتيال الثقافي التي يمثلها لها الزواج من قروي… لن يشبه مصطفى سعيد بشيء من اختلافه (المتحضر).
ويعمد الطيب صالح لإظهار ذلك الاختلاف الثقافي وأثره الكبير، لأنه يمثل انتقالة ثقافية نوعية في حياة من يلامسه روحيا، بدفع حسنة، في لحظة اليأس النهائي بالانتقام القهري من (ود الريس، بصفته رمز تخلف محيطها القروي الذي لا ينظر إليها إلا كوسيلة متعة) بقطع ذكره، (كرمز لامتهانها من قبل ثقافة ذكورة مجتمعها) وقتل نفسها.
والآن نصل إلى سؤال المكاشفة في قراءتنا هذه: أين الخلل في تشرب مصطفى سعيد بالثقافة الأوروبية، ولو كسلوك إنساني متحضر، لمسته حسنة؟ وهل كان نكوصا وهروبا أو عودة مصطفى سعيد إلى محيط ثقافته الشمالية (الثقافة الأوروبية) غير هروب من ضحالة ثقافته الأم؟ ألم يكن هروب مصطفى سعيد هروبا من تحجر ثقافتنا العربية عند نقطة بعينها وعدم مسايرتها لسنن التقدم الطبيعية؟
أعتقد أن الطيب صالح طالبنا بعملية مكاشفة شجاعة لبنانا الثقافية القائمة على الخوف الأعمى من الآخر والشك المسبق بنواياه، أولا من حيث كونه آخر بذاته، وثانيا استنادا إلى لوثات ماضيه… متناسين أن كل شيء يتغير، وفقا لسنن تطور الحياة، بمن فيها الإنسان، في بنى تفكيره وسلوكه، وإن علينا التوقف عن رفض الآخر الانفعالي والتقرب منه وملامسته ودراسته بعناية، من أجل التعرف عليه أولا، ومن أجل فهم أسباب كونه آخر وإزالة اللبس عنها ثانيا.
روائي وناقد عراقي
سامي البدري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق