بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 24 نوفمبر 2013

الاحتلال من دون احتلال» في العراق: نهاية البداية - طارق الدليمي

ساهم «الإرهاب المسلح» في تعقيد لوحة الصراع القائمة في البلاد. ولكنه يتخذ أشكالا عديدة ومضامين مختلفة ومتأرجحة في سيولتها الخاصة. بات للمصطلحات أيضا دور في زيادة الغموض الذي يجتاح الحالة السياسية العامة للقوى «الحية» وقدراتها في المواجهات المتعددة والاتهامات الغزيرة التي توجه يمينا وشمالا، وتشمل الكل من دون استثناء. لا يخلط الأوراق فقط ـ وإنما هو، الارهاب المسلح، قد مزق الجدار الموجود «سياسياً» بين القوى الراهنة ـ داخل أو
خارج العملية السياسية، وشيدت جدران جديدة بدلا عنه قادرة على إعاقة كل الجهود الحقيقية المبذولة من أجل وحدة الدين والوطن. إن الإخفاق هنا في مواجهة الإرهاب المسلح تتلخص جذوره المحددة في التناقض الذي حصل، بين أعوام 2003 و2008، بين نشاط القوى الحية الرافضة للاحتلال، العسكري ضد الاحتلال وأجهزته، و«السياسي» المتعامل فعلياً مع العملية السياسية والقابل بعدها بصيغة «الاحتلال من دون احتلال»، لا سيما بعد عقد الاتفاقية الإستراتيجية مع اميركا وقرار اوباما المعروف بالانسحاب من العراق.. وغني عن البيان أن القنوات العلنية والسرية بين قوى المقاومة المسلحة، السابقة والمتبقية، والقوى الإقليمية القادرة على «تمويل» العمل العسكري ومستلزماته، قد كان لها الدور الفعال في زيادة التعقيد في اللوحة العامة للأحداث.
لقد أدى هذا التناقض، وهو جوهريٌ في قلب النشاط اليومي، إلى عرقلة التطورات السياسية المطلوبة في جسم هذه «القوى الحية» وبنيتها الاجتماعية من جهة، وإلى تشوه اعلامها السياسي وهشاشة سلوكها بين الناس وازدياد عزلتها عن الحشود الضخمة التي كانت تحيط بها وتحرسها وتدافع عنها من الجهة الأخرى. هذه التراكمات بدورها كان لها الفعل المركزي في منع تكون صيغة الحالة الكاملة الميئوس منها من الوضع العام، والتي يمكن من خلالها أن تستمد القوة الضرورية في تحقيق التفاهم المشترك للوصول إلى الأغراض المشتركة. ولا غرو بأن الحالة الكاملة الميئوس منها هي الأساس المتين لانطلاق قاطرة اللحظة التاريخية المطلوبة. ولعل فقدان الحالة الكاملة الميئوس منها ستكون هي البناء الفوقي الفكري للبناء التحتي الاجتماعي المصرّ على الانخراط في صيغة «الاحتلال من دون احتلال». وهذه الموضوعة الفكرية هي التي ساعدت على عدم الخوض في بناء تقاليد خاصة للشأن العراقي وفي السعي الجاد لقيادة مقاومة شاملة للغزو والاحتلال. إن فقدان النموذج هو تكرار فكري ـ نفسي سيئ السمعة، وحالة من الكسل العقلي رافق كل التجارب المحبطة في العراق والمنطقة. وفقدان النموذج بدوره ساهم في زيادة التناقضات بين صفوف «القوى الحية» وأكثريتها المترددة.
من هنا فنحن الآن أمام طريقين، الأول: انتظار نضوج «الظروف والأوضاع» الملائمة للمقاومة. والثاني القول بأن المقاومة ليست لها لحظة تاريخية خاصة بها والمباشرة بالعمل بغض النظر عن الظروف، حيث يمكن القيام باتصال تلفوني خاص لمعرفة مدى ومتى انطباق الموضوعي مع الذاتي، وهل توجد كفاية مادية معينة للانطلاق نحو المقاومة. إن الانشداد الخاص لمبدأ الدفاع الساذج عن نقاء المفهوم يتيح لمن يفكر ملياً بأن يذهب بعيداً في بناء عملية ضرورة اقتناص الفرص للبدء في صناعة الأحداث. والنتيجة العملية هي حتمية الوصول إلى وضعية خفض المعايير التاريخية نفسها بإطار اجتماعي جديد بدل رفع المعايير الاجتماعية المعروفة بإطارها التاريخي الضيق.
إن الاحبولة توجد ليس في بقاء الاحتلال، وشعار النخبة السائد الاحتلال من دون احتلال، وإنما هي الثقة المريبة في مؤسسات الاحتلال وقدراتها المشبوهة، ومنها الانتخابات والبرلمان، ما يجعل الاعلام الصفيق للجميع ينتشر في أواني مستطرقة من الدجل والنفاق والجبن السياسي المنحط. أليست بعض الأقاويل من نمط «الاعتذار والتعويض» من قبل الاحتلال هي بدع سافلة لتبرير صيغة «الاحتلال من دون احتلال» وفتح صفحات جديدة والبلاد تغرق في الظلام والدماء؟ في هذه الصيغ لا توجد التسويات التاريخية العقلانية، ولكنها حالة «الخضوع» الفكري و«الخنوع» السياسي لهذه القوى «الحية»، ومستقبل مواقفها السياسية في زيادة الصراع الداخلي في ما بينها، والمترافق مع نضوب واضمحلال المقاومة الحقيقية ضد الاحتلال القائم فعلا. فلقد ابتدع الفشل والإدمان في النفاق أساليب فلسفية حديثة في حساب عدد الضحايا من الناس ومحاولة التفريق النوعي بين الموت النسبي في الارهاب والموت المطلق في الحياة العادية.
وتزداد الصورة تشوهاً وتبعثراً حين تنخرط الليبرالية السياسية الضالعة مع الايديولوجيا الاحتلالية الاميركية، وتبدأ تشق طريقاً معبداً في تحليل أسباب وآلية الاحتلال القائم فعلياً. إن مقولة الاحتلال المؤقت لا تقل تزويراً عن مقولة الاحتلال من دون احتلال، وهدفها المباشر ليس نزع الشرعية عن المقاومة ضد الاحتلال القائم فعلا، بل هو السعي المثابر في التفسير بأثر رجعي لحالة الصراع السياسي والاجتماعي في البلاد تاريخياً، ومناداة الليبرالية المتواطئة في الترديد الخسيس بمتلازمة ضالة ومضللة عن ضرورة إنهاء الاحتلال الداخلي. الذي لا بد أن يقترن بضرورة تحطيم الدولة ومؤسساتها واعتبار السيادة الوطنية مسألة غير مطروحة أمام النجاح في تحقيق الاستقلال الذاتي. والديموقراطية الانتخابية المستندة إلى حشود منغولية عريضة تخضع يومياً وتغسل أدمغتها من قبل مؤسسات فكرية وسياسية في مجتمعات قبل الدولة من العشيرة إلى الدين وحتى الطائفة. ولكي يستمر لي عنق الحقائق تصبح صعوبة التسوية مع الاستبداد السابق هي القاعدة الأخلاقية لقبول التسوية مع الغزاة.
تجري الرياح سناسن في الوصول إلى التحطيم الشامل لأولويات الحالة الكاملة الميئوس منها، ومنع هذه الصيغة، بكل الأشكال من الأسلحة المادية والروحية، في تشكلها ونضوجها وتحولها إلى مؤسسات اجتماعية ـ سياسية قادرة على اجتراح المهمات السليمة والصعبة في هذا السياق الدموي والمحاصر. وإلا، لماذا هذه القسوة المفرطة في مواجهة التظاهرات والاعتصامات التلقائية والمنظمة؟
وليس من الصعب أيضاً العثور على التفسير الصحيح للكثير من الأحداث في العديد من الحقول في مجرى الحياة اليومية، وفي حالات التعايش والصراع بين القوى الحية كافة ومع الحكومات المركزية أو المحلية وفي الأرجاء المتعددة من البلاد. فالنمط الهزيل والسائد من النخب ليس عاجزاً فقط عن فهم وتحديد اللحظة التاريخية المبتغاة، وإنما هو يفتقر إلى الحد الأدنى من القوة والنباهة في تحديد أو تمديد هذه الفترة الزمنية الحادة والخاصة، بالإضافة إلى ذلك لا توجد لدى هذه النخب خصال حميدة من نوع نرجسية الهدف المفقود وحساسية الفشل والإحباط المعروفة حتى في اللبائن الدنيا، والتي يمكن أن يكون لها دور متميز في التقاط المكونات الاجتماعية ـ السياسية المتاحة لبناء المدخل الضروري للوصول إلى «الحالة الكاملة الميئوس منها»، وبدلا من ذلك تحولت هذه النخب إلى «حالة كاملة ميئوس منها» لتتم عملية تبادل سياسي وتقاسم وظيفي بين عملية المحاصصة السياسية الديموقراطية الكاذبة وبين تطور الأوضاع كلها إلى تقسيم جغرافي ـ سياسي في الأمر الواقع، هو انعكاس موضوعي صادق لحالة الاحتلال من دون احتلال.
وإذا كانت القوى المتعاونة مع الاحتلال تنتظر بفارغ الصبر فشل الأطراف، التي تدّعي الحيوية في المقاومة. فالقوى الأخيرة لا تستطيع في حالتها النموذجية البائسة أن تمنع الفشل لتلوم الآخرين على كبحهم لمقاومتها، ومن ثم بالتدريج والترويض تتحول إلى منظرة فذة لنظرية المؤامرة الصحيحة.
وأخيراً وليس آخراً، ومن دون التخلص، موضوعياً وذاتياً وعن طريق البراكسيس الثوري، من العلاقة الشائنة والمتهافتة مع الليبرالية السياسية الاحتلالية الاميركية، لا يمكن أبداً بناء النموذج المطلوب لإعادة الاعتبار للحالة الوطنية التاريخية الجريحة. ولا يمكن قطعاً بناء الديموقراطية المطالب بها في ظل العلاقة المتينة بين هذه الليبرالية السياسية الماكرة والحالة المشوهة والمطروحة تحت اسم الاحتلال من دون احتلال. ولقد شاهدنا هذه الليبرالية المتعاونة مع الغزو واحتلال الأمر الواقع كيف بدلت جلدها السياسي عدة مرات، من الترويج للغزو والدعوة إلى الاحتلال، وإلى التنظير بعدم أهمية النفط، خدمة رخيصة لشركة اكسون موبيل، تحت تسمية الاقتصاد وحيد القرن، وصولا إلى تبنيها كل ترهات مشروع بناء الأمم وتأسيس الانتخابات الاحتلالية وتشييد الفدرالية الطوائفية والعرقية، إلى التعاون والعلاقة مع اسرائيل جهاراً نهاراً، وفي ظل إعادة الروح لمفاهيم صماء رثة على شاكلة القومية العراقية المظلومة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق