بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 29 نوفمبر 2013

يسكن بين العميان ويرسم محمد علي فرحات

الثلثاء 19/11/2013: هؤلاء أهلك
لوحة لبول غيراغوسيانالموت العبثي يتصدر الأخبار فيطلع القاتل من جدار قديم والضحية من جذع شجرة.
هذا الصباح وأنت تسمع الأخبار، تراها، كيف تعبّر عن وجدانك، عن فرحك الخاص وهواجسك الأكثر خصوصية؟ تبدو رجلاً من غير هذا العالم الدموي.

تسمع أخبارهم وتراهم يختصرون مسافة الآلام، يذهبون إلى حدها الأقصى، الموت. وفي الإيقاع نفسه يذهبون بأفراحهم إلى أقصاها، الجنس العابر السريع، الأشبه باغتصاب متبادل.
لا محل لحوار في هذه البلاد، لحديث حميم بين صديقين، بين عاشقين. لا محل لإنسانية طبيعية في هذه البلاد. وعلى رغم ذلك يعلون الصوت بمبادئ، وربما بمقدسات، بروحانيات. وتسمعهم وتراهم في كل يوم يمرغون مقدساتهم في مزق الحديد والأجساد.
انهم أهلك هؤلاء. تسمعهم وتراهم ولا تستطيع إصلاحهم، فاهنأ بعزلتك واشكر.

> الأربعاء 20/11/2013: مساء الجموع
عازفا الكمان والعود وضابط الإيقاع على سطح المبنى العالي، ورجل وحيد عند آخر الكراسي يلوّح برأسه بعدما فقد آلته الموسيقية. المستمعون في معظمهم تلمّسوا طريقهم على السلالم بعدما انقطعت الكهرباء، واصطحبوا معظم أعضاء الفرقة.
المغنيّة لم تغادر لكنها رفضت متابعة الغناء، وبقيت معنا، نحن المستمعين القليلين على سطح المبنى العالي، بين ظلمتَي الأرض والسماء، فيما أصوات المتظاهرين تصعد إلينا من بئر الطرقات المحيطة.
نغفر للمغنية صمتها ونكتفي بالكمان والعود يؤنساننا في هذا الفضاء الأسود، لكننا نفتقد النيل القريب. نطلّ من حافة السطح فنراه مندغماً بالسواد تجري مياهه بهدوء فلا نكاد نسمعها أو نراها، مياه تحيد عن شجر الضفتين ولا تُقلق العصافير في أعشاشها الخفية.
ليس في الفضاء سوى موسيقانا الخجولة وأصوات المتظاهرين التي هي مجرد صخب. ليس لهؤلاء مطرب يهتف وكورس يردد وجمهور يوسّع مجال الترداد. تظاهرة غير جماعية، كأن كل فرد يحتج وحده غير آبه بمن يجاورونه، ولو أنه تنبّه لاكتشف تناقض الهتافات حتى يمكن انقسام الجمع إلى أفراد يتبادلون الضرب واللكم. كلّ يحاول إلغاء الآخر لا التكامل معه، يحاول إلغاءه أو دفعه إلى الصمت على الأقل.
تظاهرات فاشلة واحتجاجات متناقضة يصعب فهم أهدافها، وحدهم الأفراد القليلون على سطح المبنى العالي يجتمعون حول موسيقى شاحبة في فضاء أسود، يغفرون للمغنية صمتها ويغنون بدلاً منها بأصوات خفيضة كأنها في منام.

> الخميس 21/11/2013: غيراغوسيان
مختارات من أعمال الفنان الراحل بول غيراغوسيان تعرض حتى 6 كانون الثاني (يناير) المقبل، والمعرض في سياق الاحتفال بصانعي آداب بيروت وفنونها، بحرية المدينة التي استقطبت أنفاساً من الشرق والغرب وكانت عاصمة ثقافية للمشرق العربي ومختبراً لحضاراته العريقة، وهي قاومت، ولا تزال، تحويلها منبراً للمشاحنات وساحة للجرائم المعلنة والمغفلة.
الأرمني الذي هرب أهله من المجزرة إلى القدس ثم نزحوا بعد نكبة فلسطين إلى لبنان، يجسّد في فنّه روح الشرق الضاربة في التاريخ، يعبّر عنها بالوجوه والانحناءات والجمع العائلي الدافئ، مولد الإنسان ومدرسته الأولى وخزّان أخلاقه الذي يكفي حتى آخر العمر.
وكنت أرى ارتباطاً لا أستطيع إثباته بين بول غيراغوسيان ويحيى بن محمود الواسطي (القرن الثالث عشر الميلادي) ليس فقط لأن الأخير أرمني الأصل، وإنما لميلهما الواضح إلى رسم المجاميع وإلى وضع الأجساد في انحناء روحاني أو وضع هالات حول الأجساد تعبّر عن نورانية ذات جذر مسيحي.
غيراغوسيان الذي عرفته أقل مما عرفه غيري في بيروت قبل حروبها الأهلية، رجل المهارة المزدوجة في رسم الخطوط والألوان، والفنان الجريء حينما يركز على تيمات متشابهة في لوحاته ولا يخشى، معتمداً على جوهر يؤالف بين اللوحات ويحفظ استقلال كل منها في الآن نفسه.
عاش الفنان معظم حياته في مبنى في برج حمود، الحي الأرمني في شرق بيروت، لجهة كنيسة مار يوسف. وللمفارقة، فإن سكان المبنى الصغير ذي الطوابق الثلاثة كانوا جميعاً من العميان، وكان غيراغوسيان يجاور فاقدي البصر هؤلاء ويرسم، فلا يرون نتاج جارهم.
مهني يحوّل مزاجه إلى عمل ولا يطلقه عائقاً بينه وبين الناس، وهو مارس الرسم مثل روّاد النهضة المعلّمين، متكاملاً مع أهل العمارة وتخطيط المدن والموسيقيين والأدباء.

> الجمعة 22/11/2013: استقلال لبنان
ضجر السياسيون اللبنانيون من الاحتفال بعيد الاستقلال فابتكروا مناسبات قريبة مثل إعلان لبنان الكبير، أو أنهم استعاضوا عن الذكرى بالتركيز على أعمال فنية طبعت الاستقلال بطابعها مثل أعمال الرحابنة الغنائية مع أيقونتهم السيدة فيروز.
لا يعرف السياسيون لبنان جيداً، ولا يريدون معرفته سوى في الجوانب التي تؤتي سلطة ومالاً، كالانحناء أمام الأجنبي القوي وإتقان لعبة الحرب والنقاش غير المعلن عن عائدات النفط والغاز في بحر لبنان.
لبنان بالتأكيد ليس سياسييه، إنه إنسانه المنفتح على شجاعة ومفكروه وفنانوه. وهو أيضاً أسلوب العيش الخاص والاستمتاع بجمال الطبيعة ورؤية الجانب الإيجابي من الأشياء والبشر.
لبنان ليس سياسييه أبداً، ولو كان مثلهم لما كان. إنه يتقدم وهم يجرونه إلى الخلف، يمارس المحبة وهم يبيعونها في سوق البغضاء.

> السبت 23/11/2013: رسائل العفيف
«رسائل تونسية» بين كتب عدة للعفيف الأخضر أصدرتها أخيراً دار الجمل (لبنان، العراق، ألمانيا)، والمفكر التونسي الذي توفي أو انتحر في باريس قبل خمسة أشهر، يحضر في مؤلفاته كما في سلوكه منحازاً إلى الإنسان على رغم صدمه قناعات وقداسات.
من رسائل العفيف ما يتعلق بحكم «النهضة» بعد ربيع تونس، ونقتطف من الرسالة:
«إننا لم نجد التعلّة الشرعية لتأديب الملتفين على الثورة، كي نكفّر بذلك عن ذنب اقترفناه في الأيام الأولى للثورة عندما عفونا عنهم. ونعدهم بأننا سنجعلهم يندمون على اليوم الذي لم ينتحروا فيه قبل ملاقاة الثوار الأحرار، لأننا نعدّ لهم مفاجآت من العيار الثقيل تبيدهم على بكرة أبيهم».
هذا الكلام وقّعه مصطفى الطهاري باسم «الرابطة الوطنية لحماية الثورة - المجلس الجهوي بتونس».
من العدل والحكمة عدم وضع قيادات النهضة كلّها في سلة واحدة. بل يجب تسديد سهام النقد لأقصى يمين النهضة بقيادة راشد الغنوشي الذي يقود البلاد إلى حرب أهلية لن يخرج منها أحد منتصراً.
الغنوشي سقط في الهذيان الديني، باعتقاده الهاذي بأن تونس تعيش في «التصحّر الديني». الهاذي النرجسي يندفع عادة لارتكاب جريمة ضد من يُخيّل له هذيانه أنهم مصدر «التصحّر الديني»، الذي رفع الإسلام من رؤوس المؤمنين في تونس فسقطوا في «جاهلية القرن العشرين» القطبية!
والغنوشي هو تلميذ سيد قطب الأكثر تعصّباً وميلاً لإراقة الدماء، وهو لا يستشهد به في كتاباته إلا واسمه مقرون بـ «الشهيد».
ويلحّ الغنوشي في كتاباته على أن الجوهري في الإسلام «ليس الإيمان بالله بل التوحيد». تبدو الجملة في الظاهر بـريئـة تـماماً، لـكن «الـشـيخ» يجترّ كعادته قناعات سيـد قطـب، الذي يعتبر أن «الإسلام هو التوحيد» ويـعني بذلك: «أن الحاكـمية لله وحده ولا حظّ للـبشـر فيهـا». وهذا ما يرمي إليه الغنوشي، لكنه لا يسـتشهد بـقطـب حتى النهاية عملاً بالقاعدة الذهبية: اللغة المزدوجة كخط للتراجع التكتيكي عند الضرورة!
إن كلام مصطفى الطهاري يعبّر عن قناعات الغنوشي العميقة، وهو ترجمة لتصريحه الشهير قبل انتخابات 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2011: «إذا زُوّرت الانتخابات فسأُسقط 10 حكومات» لا أقلّ من ذلك!
هذا الإسقاط ترجمته «الرابطة الوطنية لحماية الثورة» ترجمة أمينة: إبادة قادة وكادر المجتمعَين المدني والسياسي ومعهم باقي نخب البلاد على بكرة أبيهم!
وأوضح هنا أن كل الاستشهادات التي أخذتها من كتاب الغنوشي (الحريات العامة في الدولة الإسـلامية، الـطبعة الأولـى، بيروت 1993) وآخذته عليها، من فتواه باغتـيال السادات صفحة 184، إلى فتواه بضرورة قتال وقتل جميع الحكام المسـلمين صـفحة 183، حذفها من الطبعات اللاحقة من دون الإشارة إلى ذلك، كما تقتضي ثقافة مراجعة الكاتب الحقيقي لكتاباته. فما معنى ذلك؟ أنه أخفى آثار الجريمة محتفظاً بالحق في ارتكابها في أول فرصة سانحة!».


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق