بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 30 نوفمبر 2013

في الخليج «خصوصية» تذروها رياح التقنية - فهد بن سليمان الشقيران

تبدّى السلوك المحافظ في الخليج ضمن أكثر الصيغ وضوحا من جهة، وأكثرها رمزية ومخاتلة من جهة أخرى، حتى تأثرت في بعض المجتمعات طرق العمارة ضمن المد المحافظ، على ما نرى من تحويل المسابح في البيوت إلى «خيم شعبية» أو من خلال إلغاء «البلكونة» وانتهاء الشرفات التي
كانت تزيّن البيوت في الثلث الثاني من القرن الماضي.
هذا يذكّرنا بالذي حدث في موضوع «العمارة» بـ«الطرد الرمزي» الذي مارسته الهندسة المعمارية في باريس، كما يروي المهندس المعماري جان نوفيل في حوار مشترك مع الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتاب: «الأشياء الفريدة» حين كتب: «لنأخذ باريس على سبيل المثال. اتصفت هذه العاصمة، بما أسميه (عملية الخضوع للفرمول) على النحو الذي حدث في شارع كانكبوا، أو في ماريه، حول سان بول، في المحافظة على سلسلة كاملة من الواجهات ذات الطابع التاريخي، وبناء المباني الجديدة في الخلف، بدهي أن ذلك لم يخدم إلا أمرا واحدا.. طرْد السكان الفقراء الموجودين بها، واستبدالهم بالسكان القادرين».
تسكن الرمزية بالموضوع الاجتماعي حتى أبسط الأمور وضوحا، أو أكثرها تهميشا. تصاعدت الخصوصية في البناء، وانتقلت لتصل إلى الصحراء بحيث تتباعد السيارات في المنتزهات بعدا مهولا رغبة في ترسيخ الفاصل بين الخليّة العائلية، والأخرى. غير أن تلك الأنماط المحافظة تعتريها الآن تحديات كبرى، ذلك أن «تفتت الخصوصية» بات واضحا، من خلال التقنية تحديدا، والتي حوّلت أحداث اليوم العادية إلى قصص مشاعة عبر أكثر من صرعة تقنية.
لا أتحدث هنا فقط عن الصرعات القديمة مثل «تويتر» أو «فيس بوك» أو حتى «الواتساب» بل تتخذ البرامج الجديدة خطا تصاعديا باتجاه تحدي المحافظة من خلال قرع أبواب الخصوصية، وأضرب مثلا بتطبيق «الباث» وهو مساحة لتدوين اللحظات والأفكار والصور، ومشاركة الآخرين الأفلام والموسيقى التي تطلبها، ويحتوي على أيقونة لإشراك الآخرين وقت النوم ومن ثم وقت الاستيقاظ، وفي هذا التطبيق بإمكانك إضافة 150 اسما فقط، هذا التطبيق يجعل يومك مشاعا، من نوع القهوة، إلى طبيعة الأكل، وتوجه المزاج، وأيقونة لتحديد الموقع بالضبط واسم المكان الذي أنت فيه من دون أن تضطر إلى كتابته أصلا. ومثله «سناب» التطبيق الذي يعتمد لتصوير اللحظات، واليوميات. أما «إنستاغرام» فهو فناء شاسع لتحويل لحظتك إلى صورة يشاركها الناس، لم تعد الخصوصية مخترقة من قبل «آخر ظهور» تلك الخاصية التي توجد في «الواتساب» بل تجاوزت ذلك ليكون اليوم مسيّلا بكل لحظاته بين عشرات المضافين.
لم يعد الحديث «الوعظي» مجديا إزاء هذه المستجدات التقنية، ولا الحديث التربوي أيضا، بيد أن الدرس لهذا التحول هو المهم، ذلك أن أكثر المجتمعات انكماشا هي الأكثر تهافتا على هذه التطبيقات، من هنا تأتي ثنائية المحافظة في الواقع، وتبذير اللحظات والخصوصيات في الواقع الافتراضي، تستطيع أن تعرف صميم خصوصيات كل بيت من خلال الصور واللحظات، من صور الأبناء إلى الأكلات، إلى ما شئت مما يوضع في تلك التطبيقات، والتي تثبت الإحصائيات يوميا أن أكثر المستخدمين لها هم من السعودية، وأضرب مثلا بـ«تويتر» أما «الباث» فإن أكبر نمو لعدد مستخدميه يأتي عن طريق السعودية.
يزرع الانهمام بهذه الوسائل موضوع الحرية، ذلك أن حرية الإنسان في عزلته أحيانا، لكن تغير مفهوم العزلة ليكون الإنسان بين عشرات الأشخاص افتراضا حتى وإن كان منزويا، من هنا تكون الحرية وهما في كثير من الأحايين بسبب هيمنة التقنية على أصابعنا وعيوننا، وعلى اختيار مطاعمنا أو أطباقنا، أو أماكن ترفيهنا، لأننا آنذاك نقيس «اللايك» الذي سيأتي لها حين تسيل في التطبيقات الإلكترونية، من هنا أذكر برؤية «وهم الحرية» التي كتبها «ليبيانسكي» منطلقا من نقاش مع ستروس. للتقنية عبوديتها أيضا، وسحرها، ووهمها، ثمة أوهام تزرعها التقنية في عقل مستخدمها وبالأخص في مواضيع التأثير والشعبية، والقوة. أذكّر هنا بتهديد لفنانة بأن تهاجم «ماركة» أطعمة في حال تأخر طلبها، بينما هذه الماركة نشأت عام 1930 ولديها 24 ألف موظف، وتدر سنويا نصف مليار دولار، ولها 11 ألف فرع حول العالم، لا يهزها معرّف تتابعه شريحة محدودة من منطقة محدودة.
مارتن هيدغر منذ أوائل كتاباته حول التقنية عام 1953 كان يعتبر التقنية سرا عميقا، وهي أكبر من أن تكون مجرد «حدوث». درس هيدغر التقنية لمساءلتها لا للاعتراض عليها، بل يحذر: «إنني لست ضد التقنية لم أقل أبدا شيئا ضد التقنية ولا ضد ما يسمى شيطانيا في التقنية. يمكنكم أن تفهموا أنه لا مجال للحديث عن مقاومة أو إدانة للتقنية ولكن الأمر يتعلق بفهم ماهية التقنية والعالم التقني».
يطول الحديث عن هذه الصرعات، يوميا أشاهد الأجهزة الجديدة، والتطبيقات المتعددة، وهي مدهشة بسحرها ونقضها. ربما تثمر هذه التقنيات عن هشاشة معنى المحافظة، ليكون مجرد تشاكل اجتماعي لا قيمة له، وبالذات والخصوصيات تنثر وبسخاء في مواقع التدوين اللحظي. بعض ما نفاخر به من أوهام يهدمه تطبيق تقني.
إنها صرعات كثيرة بيّنت أن الثنائيات المقلقة على مستوى البحث «الاجتماعي» كبيرة، وهي مهملة حتى الآن من قبل حراس الهوية، وسدنة المحافظة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق