بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 نوفمبر 2013

قضية الدين والدولة: أهو الوحي أم الرأي؟ عبد العلي حامي الدين

أهو الوحي أم الرأي؟ هذا السؤال المنهجي الخطير كثيرا ما كان يطرح على لسان بعض الصحابة وهم يراجعون الرسول عليه السلام في بعض قراراته التي يلتبس عليهم تصنيفها ومعرفة موقعها ودرجتها الإلزامية ومدى إمكانية مراجعتها وتغييرها..
هذا السؤال الذي كثيرا ما كان يطرح بصيغ مختلفة، يستبطن تمييزا واضحا بين القضايا المحسومة بالنص وبين القضايا التي تخضع للرأي والاجتهاد.
نحن في أمس الحاجة إلى طرح هذا السؤال في واقعنا السياسي المعاصر للتذكير بأن قضايا السياسة وتدبير شؤون الحكم لم يفصل فيهما الوحي تفصيلا شافيا وتركت للمسلمين ليقدروا مصالحهم على ضوء المقاصد والقيم الكبرى..
نعم، توفي الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يترك وصية بمن يخلفه، ولم يترك كتاباً يحدد فيه شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي الذي ينبغي أن يسير عليه المسلمون من بعده، ومن ثَمَّ ليس في الإسلام تحديد معين لنظام الحكم الواجب اتباعه، و كل نظام سياسي يحقق العدل والشورى والحرية والمساواة والكرامة والتقدم، فهو ينسجم تماماً مع مقاصد الإسلام وشريعته.
لكن تاريخ المسلمين ـ كما غيرهم ـ سجل الكثير من مظاهر الظلم والطغيان والاستبداد بالسلطة، ومن نافلة القول التأكيد على أن من أسوأ أنواع الحكم تلك التي تمارس الاستبداد باسم الدين أو القداسة أو ادعاء احتكار الفهم الصحيح للدين، والتاريخ الإسلامي مليء بنماذج هائلة تصب في هذا الاتجاه كانت نتاج هذا التماهي بين ‘الديني’ و’السياسي’ سواء في السلطة أو في المعارضة، وهو ما جعل كل فريق يمارس عملية تنظير شرعي وحشد للنصوص لإثبات صحة الموقف السياسي و’لا شرعية’ موقف الخصم..
إن نشأة المذاهب والعقائد والاتجاهات الفكرية والفلسفية في التاريخ الإسلامي كان الدافع السياسي عاملاً مهماً في تكوينها وتطورها.
فى تاريخ المسلمين كان هناك من الساسة من صور كل قرار يتخذه و(كأنه إعمال لإرادة الله النافذة التى لا تجوز مخالفتها المدرسة الجبرية)، التي تقترب من نظرية التفويض الإلهي التي تدعي بأن الحاكم يمثل إرادة الله في الأرض..
وهناك مخزون تاريخي لا يبعث على الاطمئنان و من المشروع جدا أن تثير قضية العلاقة بين الدين والدولة تخوفات حقيقية لدى جميع الديموقراطيين من جميع المشارب والاتجاهات، خاصة على ضوء التحولات الجارية في العالم العربي وعلى ضوء الصعود الواضح للحركات الإسلامية وبروز نجمها في المجال السياسي..
ورغم بعض الارتدادات التي تعترض هذا الحضور، فإن علاقة الدين بالدولة وعلاقة الدولة بالدين تتجاوز الحركات الإسلامية المعاصرة، وتساؤل العديد من الأنظمة العربية..
ولذلك نحتاج اليوم، إلى إعادة طرح السؤال الأول الذي طرحه الصحابة على الرسول الكريم، ونمتلك الشجاعة اللازمة للجهر به أمام كل من يصدر في ممارسته السياسية أو في بناء مشروعيته السياسية على الدين..
قضية الدين والدولة كانت دائما محل نقاش غير محسوم بالأجوبة القطعية وينتهي في الغالب إلى توافقات اجتماعية إذا البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية مهيأة لذلك، أو ينتهي بفرض الأمر الواقع اعتمادا على قوة السيف وجبروت السلطة.
نحن نميل في الغالب إلى البحث عن أجوبة سهلة وتبسيطية واختزالية للقضايا المعقدة من قبيل، أن الحل يكمن في ‘الفصل بين الدين والدولة’ أو القول بأن ‘الإسلام دين ودولة’ وكفى هكذا بدون تدقيق، أو القول بأن ‘الدين والدولة لا يجتمعان إلا في شخص الحاكم’ ..
باستعراض التجارب المعاصرة نلاحظ بأن هناك إجابات متعددة لعلاقة الدين والدولة فى الأنظمة الدستورية المعاصرة، فهناك من اختار دستور منزوع الصلة بالدين (الصيغة السوفييتية أو تركيا في نسختها الكمالية الأولى أو دستور كوريا الشمالية)، حيث ترى النخبة القابضة على الدولة أن الدين فى ذاته خطر وأن التدين مؤشر تخلف.
وهذه الصيغة أثبتت محدوديتها التاريخية لأنها تتناقض مع حق الأفراد فى أن يكون لهم مجالهم الخاص الذى لا تتدخل فيه الدولة، ولأن الدولة استغلت اختصاصها التشريعي واحتكارها للعنف كي تهيمن على المجال الخاص والعام، وهناك الدساتير التي أضفت امتيازا واضحا على دين الأغلبية وحظرت أديان الأقليات الأخرى، مثل دستور النيبال لـ1990 قبل تعديله سنة 2007، والذي جعل منها مملكة هندوسية مع الرفض الصريح للاعتراف بحق المواطنين النيباليين المسلمين والبوذيين والمسيحيين فى ممارسة شعائر دينهم..
وهو نفس التصور الذي يحمله اليمين الديني في ‘إسرائيل’الذي لا يخفي رغبته في محو جميع الديانات ما عدا اليهودية لو تمكن من تطبيق شريعة الهلاخا (Halacha) .
خطورة هذا النمط أنه يحول الدين إلى أداة قمع لا تحكم فقط المجالين الخاص والعام لأتباعه ولكن السياسة والحكم والتشريع للمجتمع بأسره أيضا.
ومن هنا تأتي أهمية أن يكون الدستور نابعا من قيمة الحرية بدلالاتها السياسية الواسعة، وأن يكون دقيقا في صياغته من الناحية القانونية حتى وإن كان فيه نص على دين رسمى؛ وهو ما من شأنه أن يضع قيودا على الاستبداد باسم الدين والاتجار به، كما يرفض أن يكون البديل عن الاستبداد باسم الدين، استبدادا بغيره. فالحرية السياسية متصالحة مع الدين تحترمه وتضعه فى مكانه اللائق به سواء على المستوى الفردى أو كإطار عام لحياة الناس فى مجتمعهم دون أن يسمح للسلطة بالتعسف فى استخدامه.
هذان النمطان السابقان لا يمثلان، ولا ينبغي لهما أن يمثلان تجربة ملهمة بالنسبة للمجتمعات العربية والإسلامية، لأنهما لا يتفقان مع روح الحرية التي هي أصل كبير من أصول الإسلام ‘لا إكراه في الدين’ ولا إكراه في السياسة أيضا، كما أنهما يتعارضان مع الالتزام الرسمي من معظم حكومات العالم بمواثيق حقوق الإنسان والتي تؤكد حرية العقيدة وحق ممارسة شعائر الدين.
هناك تجارب أخرى تعتمد فلسفة علمانية تفترض ‘حرية الدين’ وهي النموذج الليبرالى الأصيل، كما في الصيغة الأمريكية والكندية والاسترالية واليابانية، حيث تحترم الدولة المجالين الخاص والعام تماما بضابطين اثنين وهما ألا تحابي الدولة رسميا دينا على حساب دين آخر ولا تسمح الدولة بأن تكره أي طائفة شخصا على الشعور بالحرج من التعبير عن رموزه الدينية أو تبني دين دون آخر.
فالدولة تتدخل بالتشريع لحماية حقوق الأفراد ولا ترى أن عليها مسئولية فى دمج أبناء الديانات فى المجتمع بإجبارهم على التخلي عن رموزهم ومعتقداتهم ولكنها تهدف إلى التعايش بينهم.
السر في نجاح هذا النمط من الدساتير، هو أنه جاء مسبوقا بتوافقات مجتمعية سابقة على الدستور.
وليس بعيدا عن هذا النمط، هناك تجارب الدول التي قررت وضعا خاصا لدين الأغلبية.
نجاح هذه التجربة متوقف على استيعاب الحقوق الأساسية لأتباع الديانات الأخرى وترسيخ مبدأ مساواة الجميع أمام القانون.
هل المنطقة العربية مؤهلة لتبني تجربة ناجحة على غرار بعض الدساتير الأوروبية المتقدمة من الدنمارك وأيسلندا والنرويج وفنلندا التي تنص دساتيرها وقوانينها صراحة على أن المسيحية اللوثرية هي ديانتها الرسمية، وهو نفس الحال مع المسيحية الأنجليكانية في انكلترا حيث الملكة هي رئيسة الكنيسة، أوالمسيحية الأرثوذوكسية فى اليونان وقبرص، أو اعتماد الكاثوليكية كديانة رسمية فى كل من الأرجنتين وبوليفيا وكوستاريكا والسلفادور؟

كل شيء متوقف على مستوى النضج الذي تعبر عنه النخب السائدة، وامتلاك القدرة على الجواب على السؤال الأول: أهو الوحي أم الرأي؟
القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق