بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 سبتمبر 2014

ليس لسورية من يرثيها - محمد علي فرحات

اليوم مثل البارحة والكلام يتكرر، والدخان يتصاعد من الماضي، الماضي الذي احترق ولا نرى رماده. وحـــده الدخان يغطي المشهد، دخان كراهية مجانية وعدوانية تدّعي تبرير وجودنا.

دخان من رؤوس لم تمارس عناء التفكير، من وجدان مخنوق لا يستطيع التأمل، دخان من شقوق أرض لم يزرعها أصحابها، من أفواه لم تبتسم، من حناجر لم تتدرب على الغناء، من أنامل لم تعزف، واعتادت التصفيق حتى صار التصفيق محرّماً.
يوم آخر يكرر ما قبله.
خوف متبادل.
ونموت من الخوف قبل موتنا.
> الاثنين 8/9/2014: يا لصوتهايا لصوتها ومن خلفها التخت الموسيقي، كورس قليل وعازفون بآلاتهم المتقشفة. صوتها السيد يهبط بنا ويعلو، تهبط أرواحنا إلى السهول وتعلو إلى القمم لتهب عليها نسائم الرحمة. من يسمعها لا يعتدي ويرحم الناس قبل أن يرحم نفسه.
بالغناء تُسكت شيطانهم وتهدم شوكته وتُبعدُ عنا سمومه.
وكفاني صوتها، لم أسأل عن الاسم ولا عن الجنسية، على الأرجح أنها تونسية، غناؤها من كلاسيكيات عصرنا التي صنعها المصريون حين كان وطنهم أماناً لهم وللعالمين: أدخلوها إن شاء الله آمنين. من يستطيع أن يدخلها اليوم وباسم الله يمارس العدوان العاري على بشر أبرياء.
يا لصوتها ينحاز إلى البراءة، إلى التأمل، إلى العبادة بلا ضجيج ولا استعراض ولا منّة.
يا لصوتها النجاة من جفاف أرواحنا.
> الثلثاء 9/9/2014: الهامش يعترض
تسونامي الإسلام التكفيري المسلح فضيحة ثقافية عربية قبل أن يكون فضيحة سياسية أو اجتماعية أوعسكرية. لقد أغرق هذا التسونامي تراثنا الفني الحديث في مجالات الموسيقى والغناء وأدخله في دائرة التحريم أو العيب، في محاولة ناجحة لتجفيف أرواح الجيل الجديد وتهيئته ليكون عدوانياً رافضاً كل ما يجمعه بالإنســان الآخر. والفـــنون هي جـــامع إنســاني قبل أن تكون تعبيراً عن وجدان فرد أو شعب.
وإذا كانت النتاجات الثقافية الطبيعية تتجلى في ثوب ملون يحاكي الطبيعة وتنوّع كائناتها، فإن المظهر الثقافي الوحيد أو الأوحد للإسلام التكفيري هو اللون الكاكي. لقد أحال المسلحون الإسلاميون الدين إلى معسكر يقتصر على الجنود ويطرد المدنيين أو يقتلهم.
إنها فضيحتنا الثقافية، ولا تنحصر المسؤولية في المثقفين أو أي فئة اجتماعية بعينها، فالكارثة مركّبة وأسبابها مركّبة أيضاً. لكن المجابهة الثقافية تبدو دون مستوى التحدي، وتقتصر على مبدعين منسحبين من الشأن العام، أو متفاعلين من بعد فلا يدخلون في حشايا تناقضاته أو تحولاته. لذلك يبدو النتاج الثقافي فردياً وهامــشياً يمارس الاحتجاج من موقعيه هذين، وتتشكل إبداعاته في تسجيل فوتوغرافي للطبيعتين الصامتة والحية، أو في كتابة شذرات لا في كيان كتابي كبير، كما تتشـكل في أفلام قصيرة أشبه بأعمال فيديو أو بلوحات وكيانات فنية تجريبية، وتقتصر هذه الإنجازات ومثيلاتها على جمهور محدد أو على أجانب يرغبون برؤية تحولات الوجدان العربي من خلال أعمال مبدعين شبان وشابات.
ليت المشكلة صراع أجيال، لكنها نهاية حقبة أغرقها تسونامي الإسلام المسلح، ليبدأ المبدعون من صفر لا من إرث، وكثيراً ما يستعيدون مسائل ومقاربات سبق لآبائهم أو أجدادهم أن أنجزوا مثيلاً لها.
الثقافة العربية في حال غريبة، فهي تسترجع الماضي البعيد الذي يستخدمه الإسلام السياسي ذريعة، فيما لا يعرف أحد الماضي القريب، أو لا يستطيع معرفته أو لا يريد معرفته.
موت الأب هو ما يحصل ومن دون إرث الأب. أما الأسلاف القدماء فتظهر كلماتهم مضاءة في الميادين ويتم اتخاذها مرشداً ودليلاً الى تدمير ما أنتج المجتمع العربي الحديث منذ قرنين.
> الأربعاء 10/9/2014: مراثي سورية
الوطن لأهله الباقين فيه، للفلاحين الذين يشبهون الشجر ويرعون الحيوانات الأليفة، كما يزرعون وينتظرون الحصاد. كم صعب أن يهاجر الفلاح. كيف يحمل في حقائبه حدائق وأشجاراً وغنماً وبقراً؟
وحين تتحالف تكنولوجيا السلاح مع التكفير يتم قتل الفلاحين بخفّة وحرق زرعهم وحيواناتهم الأليفة. ثمة من يريد البدء من الصفر والفلاحون أولى من غيرهم بالإلغاء.
هذا ما حدث ويحدث. وليس من يرثي سورية، فقلة من أهلها اعتبرتها وطناً. كانت دائماً جزءاً من دولة عربية كبرى لم تتحقق، أو من أمة إسلامية عالمية لا توجد إلا في الكتب القديمة.
سورية غادرت أهلها بعدما غادروها بلا وداع، بل بلا انتباه. لذلك، هناك قلة يرثون سورية ويتأملون في نزعها الأخير باعتبارها أمّاً وأمة عظيمة لم يعرفها جيداً أبناؤها.
أبرز الشعراء الذين يرْثونَها هذه الأيام هو نزيه أبو عفش. هنا مقطع من قصيدته «يتيمة الأرض» (لأن أهلها ماتوا أو لم يعترفوا بها فغابوا مثلما يغيب الموتى):
«- لا عزاء للحياة.
الأرضُ مثقلة بموتاها،
والدموعُ هدنة ما بين مأتم ومأتم.
- في مساكن المفجوعين
مفجوعون آخرون
يواسون مفجوعين آخرين.
يا سورية، يا يتيمة الأرض،
لا تصدّقي!
لا أمل... ولا أمل...
- الوحيد،
العجوز الوحيد،
العجوز الوحيدُ الساكنُ في قلب نفسِهِ وقلب ظلامِهِ،
لا أحد يسأل عنه
لا أحــدَ يقـــول له: صـباح الخير أيها الجار!
- نهار الاثنين، بعد المذبحة بيوم:
المرأةُ الثاكلة دقّت عليه الباب
فقط لكي تعزّيه
بموتِ ولديها الاثنين...
ولديها اللذين... لا ثالثَ لهما.
- آه يا سورية يا يتيمة السماوات والأرض».
> الخميس 11/9/2014: شوارع وسكان
أتذكر الأشياء الجميلة في المشهد: إنه الحنين.
أتذكّر الأشياء السيئة في المشهد: إنه التخطي نحو أرض جديدة، أي نحو المشهد الجديد، حيث أعيش.
الشارع بلا أهله ليس هو. كيف السكان الجدد يحولونه شارعاً آخر من دون أن يتغير شيء في الأبنية والمعابر.
الآن لغة واحدة في بدائيتها الأولى.
لغة تستغربها المداخل والشرفات وغرف النوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق