بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 9 سبتمبر 2014

التدخل العسكري الغربي يكرر تجربة افغانستان د. سعيد الشهابي

ما الذي يدفع الكثيرين للتشكيك في نوايا الغربيين حول سياساتهم في الشرق الاوسط؟ أهو «غياب الثقة»؟ ولماذا؟ اهو «العداء التاريخي»؟ ام التركة الاستعمارية؟ اهو التباين الديني والايديولوجي؟ ام الصراع بين الاستبداد والحرية الذي يكشف بين الحين والآخر ازدواجية السياسة الغربية؟ من الصعب الاشارة الى اي من هذه العوامل منفصلا عن العوامل الاخرى لتفسير ظاهرة تنامي القلق الداخلي ازاء اي مشروع غربي في عالم العرب والمسلمين. وعلى سبيل المثال هناك الآن توجه لدى واشنطن ولندن لتوجيه ضربات عسكرية ضد حركة «داعش» التي تسيطر على مساحات شاسعة منالعراق وسوريا. فلماذا التشكيك الواسع في اهداف ذلك التدخل حتى في اوساط المتضررين من تلك الحركة؟
لماذا لا تستقبل القوات الغربية بالورود والرياحين؟ ومع ان من الصعب اقتراح اجابات على تلك التساؤلات، ولكن ظروف القرار الغربي تدفع للتشكيك العميق في النوايا والاهداف الغربية. فما ان امتدت سكاكين الداعشيين الى رقاب رهينتين امريكيتين وهددت الثالث حتى تغيرت نغمة الخطاب الغربي وطرح احتمال التدخل، بل بدأت الضربات الامريكية في شمال العراق. بعض المشككين في النوايا الغربية يذهب ابعد من ذلك ويفترض ان قتل كل من جيمس فولي وستيفن ستوتلوف ربما كان امرا مفتعلا لتبرير التدخل العسكري الموعود. ومع صعوبة القبول بذلك الافتراض الا ان من الصعب ايضا تفسير حالة اللامبالاة لدى القوتين الغربيتين الكبريين ازاء التوسع السريع للمجموعات الارهابية في سوريا والعراق. بل ان القضية لم تعد محصورة بـ «اللامبالاة»، بل تصل حد الاعتقاد بوجود تشجيع ضمني لذلك التوسع. ومن يقرأ حوادث السنوات الثلاث الاخيرة قد يستنتج ان للغربيين يدا في وجود هذه المجموعات المناوئة لنظامي سوريا والعراق. وباستحضار تاريخ الازمة الافغانية يبدو ذلك التفسير منسجما مع نمط التعاطي الغربي مع الدول العربية والاسلامية. فلم يعد سرا القول بان الجهات التي أسست ومولت بعض المجموعات المقاتلة ضد الاحتلال السوفياتي لافغانستان التي تحولت لاحقا الى تنظيم القاعدة، انما هي الولايات المتحدة وباكستان. 
تطورات خمسة مهمة حدثت خلال الاثني عشر شهرا الاخيرة. اولها توسع نفوذ حركة داعش بشكل جعل منها مصدر تهديد حقيقي للمشروع الغربي الذي قادته الولايات المتحدة وضم التحالف الخليجي. ثانيها: تجاوز داعش بعض «الخطوط الحمراء» المتفق عليها ضمنا، ومن ذلك محاولة التغلغل في دوائر نفوذ الاكراد، ومهاجمة اربيل والموصل. ثالثها: تغير الامزجة السياسية في المنطقة بما يشير الى تغيرات في التحالفات والعلاقات، ومن ذلك التخلي عن فكرة العمل العسكري ضد نظام بشار الاسد وبدء الحوار الغربي مع ايران وتراجع احتمالات المواجهة العسكرية معها، واعلان داعش ما اسمته «الدولة الاسلامية» وما صاحبها من تحول لدى قادتها ضد الغربيين والسعوديين بشكل خاص، وادراك الغربيين ان نظام الاسد يمثل بديلا أقل خطرا على مصالحهم وعلى امن المنطقة. 
ثالثها: جاءت جريمة قتل الرهينتين الامريكيتين ليوفرا مبررا لسياسة غربية مختلفة، تتمثل بالتدخل العسكري في العراق وسوريا بذريعة ضرب تجمعات الارهابيين. رابعها: فشل العدوان الاسرائيلي على غزة بشكل مروع، فلم يحقق الاسرائيليون اهدافهم التي اعلنوها حين شنوا العدوان وفي مقدمتها نزع سلاح المقاومة، وهو فشل لم يكن الغربيون او الاسرائيليون وحلفاؤهم في المنطقة خصوصا السعودية يتوقعونه. هذه التطورات وفرت للغربيين ذرائع للتدخل، وان كان البعد الاسرائيلي لم يظهر في السجالات الدائرة، نظرا لحساسيته. مع ذلك لا بد من الاعتراف بان هذه التطورات الخمسة تحمل دلالات تتناقض في ما بينها. فضرب الداعشيين سيبرر بانه جانب من مشروع «الحرب على الارهاب» الذي بدأ قبل اكثر من عشرة اعوام، ولكن ستكون له نتائج لا تنسجم مع السياسات الغربية. ولذلك ما يزال الغربيون يهندسون هذا التدخل، بحيث يؤدي نتائج ايجابية للغربيين ويقلص احتمالات استهداف مصالحهم مستقبلا، ولكنه لا يزيل المنغصات الامنية التي ترهق كاهل نظامي بغداد ودمشق. وقد كرر الرئيس اوباما ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، عدم رغبتهما في ارسال قوات ارضية، والاكتفاء بتوجيه ضربات جوية لتجمعات «داعش» لمنع تجاوزاتها. وقالا ايضا انهما لن يطلبا موافقة الرئيس السوري لتوجيه ضربات عسكرية لتجمعات داعش في الرقة والمناطق الاخرى.
الامر الواضح ان السياسة الغربية تسعى لتحقيق اهداف متضادة: اضعاف الانظمة غير الصديقة عن طريق المجموعات المسلحة التي مارس بعض فصائلها ابشع اشكال الارهاب، بدعاوى شتى من بينها «الدفاع عن حقوق السنة» تارة و «اقامة الخلافة» اخرى، وضمان عدم وصول ذلك الارهاب الى العالم الغربي. حقيقة مهمة ينساها الساسة الغربيون برغم تجسدها مرارا في التاريخ المعاصر مفادها ان الحرب على الارهاب يجب ان تكون شاملة وبدون مساومة او استثناء او انتقائية، والا فان الارهاب لن يوفر احدا، وان الغربيين لن يكونوا بمنأى عنه، لانه كالنار التي تسري في الهشيم ولا تميز في اهدافها. ومن يسعى لمحاربة الارهاب يجب ان يكون منسجما في اهدافه وان لا تكون اساليبه قذرة، وان يرفض الارهاب حين يقع على غيره، لكي لا يصل اليه. فمن رأى في بيت جاره نارا فعليه المبادرة لاطفائها لكي لا تصل الى بيته. فحينما شن الغربيون حربهم على الارهاب لم تكن دائرته واسعة جدا، بل كان محصورا بين تنظيم «القاعدة» و الدول الغربية. اما اليوم فقد توسعت دوائره لتصل الى افريقيا، فيظهر تنظيم «الشباب» في الصومالليستهدف كينيا وبلدان الساحل الافريقي، وتتشكل مجموعة بوكو حرام لتعيث فسادا وقتلا في نيجيريا، وتنظيم «القاعدة في المغرب العربي» ليصبح هما ثقيلا لبلدان المغرب العربي. وها هي مجموعات الارهاب تظهر في ليبيا لتهدد امن البلاد واستقرارها وتقسيمها. كما ان مصر اصبحت، هي الاخرى، مهددة بتصاعد الارهاب لاسباب شتى من بينها الانقلاب العسكري على الحكم المنتخب وسيطرة بقايا نظام مبارك على الحكم. وفي الجزيرة العربية يمارس «تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية» انشطته بشكل مروع، ويهدد امناليمن واستقراره. وفي باكستان يتواصل الارهاب على نطاق واسع خصوصا من قبل مجموعة «طالبان باكستان»، وكذلك الامر في افغانستان. 
واذا اضيف لذلك ما يجري في سوريا والعراق، وما توفر للمجموعات الارهابية من مصادر مالية ضخمة بعد سيطرتها على آبار نفطية وأسلحة امريكية متطورة، اتضح بما لا يترك مجالا للشك ان الارهاب توسعت دائرته بعد اثني عشر عاما من الحرب الغربية عليه. مع ذلك لا يعترف الغربيون بذلك، ولا يستفيدون من دروس الماضي القريب. أليس غياب الحرية والممارسة الديمقراطية من اسباب التطرف والعنف؟ 
التدخل الغربي العسكري اصبح امرا محتوما، خصوصا بعد ذبح الرهينتين الامريكيتين والتهديد بذبح رهينة ثالث بريطاني. فقد ساهمت جريمة الذبح في تهيئة الرأي العام الغربي للتدخل العسكري، برغم الازمة في اوكرانيا وتصاعد الحرب الباردة بين الناتو وروسيا. المواطنون الغربيون اصبحوا اكثر ادراكا لخطر الارهاب المنظم المدعوم بالدولار النفطي والموقف العسكري الغربي المتأرجح، ولكنهم ليسوا على اطلاع بما يدور من وراء الكواليس ولا يناقشون مدى حكمة السياسة الغربية ازاء الارهاب وداعميه الاقليميين. فليس هناك نقاش حقيقي حول ارتباط تلك الظاهرة بقضايا الاستبداد والاحتلال والتضليل الاعلامي. كما لا يدركون حقيقة دوافع حكوماتهم للصمت ازاء الانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان سواء التي يمارسها الاحتلال الاسرائيلي ام المجموعات المسلحة ام الانظمة الاستبدادية التي تشعر انها مطلقة اليد للتعامل مع طلاب الحرية والتغيير. 
لا شك ان التهديد الذي تمثله المجموعات المسلحة في بلدان عديدة من بينها العراق وسوريا اصبح مصدر قلق كبير لدى حكومات الغرب وشعوبه، ولكنه اكثر إيلاما وإزعاجا لشعوب المنطقة التي لا تكاد تفرغ من أزمة حتى تدخل غيرها. 
انها تنظر لما يحدث بريبة وتشكيك بسبب تأرجح السياسات الغربية وازدواجيتها وانتقائيتها. فحين يصبح المال النفطي عاملا لغير صالح التحول الديمقراطي، تتعمق مشاعر الاحباط، الامر الذي يدفع بعض شباب الامة نحو الاتجاهات المتطرفة التي تحولهم الى قنابل بشرية موقوتة، سواء في بلدانهم ام في العواصم الغربية التي نشأوا وترعرعوا فيها. لو التزمت الدول الغربية بقدر من المبدئية واكتسبت شيئا من المصداقية في الازمات السابقة لربما لم تنشأ الازمة الحالية، ولما كان العالم يجدد تفكيره في ما يمكن عمله لاحتواء ظاهرة الارهاب، بعد اكثر من عقد كامل على الحرب ضدها. انه تراجع مهين يشجع الشباب المغرر بهم على الالتحاق بتيارات التدمير والموت العبثي الذي لا يوفر أحدا. ان التدخل العسكري الغربي وحده لا يكفي ما لم يكن مشفوعا بمشروع لتطوير المنطقة سياسيا وديمقراطيا بتحريرها من الاستبداد والاحتلال معا، فذلك هو الطريق الاقصر لمحاصرة الارهاب الذي عبر القارات وهدد امن العالم واستقراره.

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق