بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 9 سبتمبر 2014

متى يعلن العرب موت الخطاب الإعلامي السلطوي؟ - محمد شومان

هناك غموض وعدم اتفاق بين الباحثين حول مفهوم الخطاب الإعلامي ومكوناته، وبغض النظر عن هذه الاختلافات فإنه يجب التسليم بأن الخطاب الإعلامي هو ممارسة اجتماعية متغيرة، ويتعرض دائماً للتغير والتطور، لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن نفهم أن الخطاب الإعلامي العربي ليس شيئاً واحداً، وإنما يتكون من عدد من الخطابات الإعلامية
المتصارعة أو المتعاونة، كما أن هناك تداخلاً أو تعايشاً خطابياً بين أكثر من خطاب، وقد تحدث استعارات في المفاهيم والأطروحات لكل خطاب في إطار محاولة كل منها مواكبة تحولات الواقع وتحقيق أكبر مقدار من التأثير الاجتماعي.

وتعكس الخطابات الإعلامية حقائق اجتماعية متباينة وأوهام أيديولوجية ومصالح متعارضة، وعلى سبيل المثل قد يتبنى الخطاب الإعلامي الحكومي بعض المقولات أو المفاهيم لحزب معارض ويدمجه في إطار بنيته الخطابية، وذلك بهدف التأثير في الجمهور وحرمان المعارضة من احتكار هذا التأثير. كما أن خطابات جماعات الإسلام السياسي قد تتبنى بعض مقولات ومفاهيم خطابات أحزاب من أقصى اليسار، أو قد يحدث العكس، القصد هنا أن الخطابات المتصارعة في المجتمع تؤثر في بعضها بعضاً وتنقل أو تتبنى أو تعيد توظيف بعض المفاهيم في إطار محاولة كل خطاب منها التأثير في الجمهور وإثبات مشروعيته المجتمعية. وعبر هذه العمليات المعقدة، الواعية أو غير الواعية تتشكل ملامح الخطاب الإعلامي في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي.
وأعتقد أن ثورة تقانة الاتصالات وانتشار البث الفضائي، ثم انتشار شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وتنامي ظاهرة المواطن الصحافي Citizen Journalism قد شكل نقطة تحول كبرى في بنية الخطاب الإعلامي العربي وتطوره، حيث أنهى الاحتكار والهيمنة المباشرة للدولة العربية على الخطاب الإعلامي بكل أنواعه، وبدأت مرحلة الصراعات الخطابية بين سياسات دول ومصالح شركات وأفكار وأيديولوجيات، وطموح فاعليات مستقلة تنتمي للمجتمع المدني.
لقد انتقل الخطاب الإعلامي من مرحلة احتكار الدولة القطرية إلى فضاء الصراعات العابرة الحدود القطرية. ولا شك في أن الوطن العربي شهد مثل هذه الصراعات قبل ثورة الاتصالات والفضائيات في التسعينات، إلا أنها لم تكن بتلك الحدة والسفور والاتساع التي نعيشها في هذه المرحلة.
إن تعقيدات الخريطة السياسية العربية بعد ثورات الربيع العربي وثورة تقانة الاتصال والمعلومات تفرز خطاباً إعلامياً يتسم بالتعدد والصراع، حيث تتعايش داخله خطابات متصارعة ومتنافسة، وأحياناً متعاونة تنتجها قوى وفاعليات اجتماعية وسياسية لها مصالح وأيديولوجيات متعارضة. وضمن هذا التنوع من الطبيعي أن يحدث تداخل خطابي واستعارات مفاهيمية وتأويلات ومفاوضات بين الخطابات ومنتجيها ومستهلكيها، وأن تتعايش وتتصارع أفكار الحداثة مع أفكار ودعوات سلفية، سواء كانت سلفيات دينية أو سياسية. كذلك من الطبيعي أن يعاد طرح أفكار وتصورات خاصة بالهويات أو حقوق المرأة والإصلاح السياسي، وتقدم تأويلات متناقضة وذلك وفق مصالح منتجي الخطاب وتوجهاتهم، ووفق الظروف والبيئات الاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية.
في هذا الإطار تلعب الأيديولوجية دوراً مهماً في التحليل النقدي للخطاب، فاللغة اختيارات أيديولوجية، كما أن الخطاب ممارسة ذات طابع أيديولوجي من حيث التكوين والتأثير، مع ملاحظة أن مدارس تحليل الخطاب استخدمت مفهوماً للأيديولوجية والسيطرة الأيديولوجية أقرب ما يكون للغرامشية الجديدة، بمعنى أن ممارسة القوة في المجتمعات الديموقراطية الحديثة لم تعد تعتمد على الإكراه بالدرجة الأولى بل على الإقناع، أي أصبحت عملية أيديولوجية بالمعني الغرامشي، لكن في الواقع العربي تجمع النخب الحاكمة بين الهيمنة الخشنة (ممارسة القوة والقمع) والهيمنة الناعمة، لكن هذا الجمع غالباً ما يفتقر إلى التوازن حيث تميل الكفة دائماً للهيمنة الخشنة وتأتي الهيمنة الناعمة كغطاء دعائي هش يفتقر إلى الصدقية ومن ثم القدرة على التأثير والإقناع والتزييف المتقن لوعي الجماهير. ويمكن رصد ظاهرتين يجسدان خلل الهيمنة السلطوية على الإعلام، والتي تبشر بموتها في المدى القريب:
ظاهرة الخطاب الإنجازي: يعتبر أحد أهم مكونات الخطاب الإعلامي العربي ويقصد به أن كل دولة أو حزب أو هيئة حكومية أو خاصة تحرص على إنتاج وترويج خطاب إعلامي يشيد بإنجازاتها ونجاحها في المجالات كافة، على رغم عـــدم وجود أي نوع من النجاح أو الإنجاز، ولنـــأخذ مثلاً إعلام بشار الأسد والذي يشيد بما حققه في السنوات الثلاث الأخيرة! وعلى رغم سهولة الكشف عن ضعف صدقيته الخطاب الإنجازي (مديح الذات) وتهافت منطقه في عصر البث الفضائي والإنترنت ووسائل الإعلام الجديد new media، إلا أنه لا يزال يشغل مساحة كبيرة ضمن الخطابات الإعلامية العربية المتداولة والمتصارعة، ويبدو أن قوة علاقته بعملية التنشئة والمناهج التعليمية تحفظ له مساحة من الفعل والتأثير. كما أن الحكومات والأحزاب تعتقد أن هذا الخطاب كفيل بالإبقاء على مشروعيتها ودعمها. ومع ذلك أعتقد أنه خطاب في طريقه إلى الزوال بوتيرة متسارعة نتيجة تناقضاته وأكاذيبه ومبالغاته الفجة، فإنجازات الداخل تكشفها معاناة غالبية المواطنين من تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والحريات العامة التي تكشفها الصور والمعلومات التي يتبادلها الموطنون العرب عبر شبكات التواصل الاجتماعي وأشكال الإعلام الجديد.
ظاهرة استغلال السياسي الفج للإعلام: أن الخطاب الإعلامي هو ممارسة سياسية واجتماعية بامتياز، من هنا فإن النخب السياسية في الحكم أو المعارضة تحرص دائماً على توظيف الخطاب الإعلامي لتحقيق مصالحها حتى لو كان ذلك على حساب القواعد المهنية ومواثيق الشرف الإعلامي، الأمر الذي أفقد الخطاب الإعلامي العربي صدقيته بين الجمهور.
وغلبة السياسي على الإعلامي هنا لها مستويات متعددة، أولها أن السياسي بالمعنى العام للكلمة يمارس قيوداً معلنة وغير معلنة على الخطاب الإعلامي. والثاني أن الأشكال الرقابية التي تفرضها بعض الحكومات العربية تؤثر بالسلب في عملية صياغة الخطاب نفسه وتخلق تشوهات في بنيته. الثالث أن منتجي الخطاب يلزمون أنفسهم بهذه القيود (الرقابة الذاتية) أثناء عملية إنتاجه أو ينتجون الخطاب وفق مقاييس الرقيب. الرابع أن بعض السلطات الرقابية في الوطن العربي تمنع وصول الخطاب الإعلامي إلى الجمهور. أما المستوى الخامس فهو أن بعض السلطات تعتقل أو تطارد بعض منتجي الخطاب الإعلامي الجديد كما حدث مع عدد من المدونين الشباب.
مجمل التحولات السابقة لا تعني زوال سلطة الدولة ودورها في المجال الإعلامي، لكنها تؤكد تراجع هذا الدور واحتمال موته القريب إن لم تطور الدولة من أدوارها الإعلامية وتتجه نحو مزيد من التعددية والديموقراطية الإعلامية، وما يتضمنه ذلك من دعم حق المواطنين في الاتصال، ومن حرية الاتصال والإعلام وتدفق المعلومات والآراء، لكن في المقابل هناك مجموعة من التحديات الخاصة بطبيعة أدوار الدولة في المستقبل وتوجهات الفاعلين أو اللاعبين الذين سيتقاسمون مع الدولة ما كانت تتمتع به من سلطات وصلاحيات إعلامية هائلة، ومنها: هل ستحل الاحتكارات الرأسمالية وشركات الإعلان محل الدولة أم تتحالف معها لتجديد الخطاب السلطوي؟ في الوقت نفسه ما هي حدود السلطة الإعلامية للدولة ومجالاتها؟ وهل مات دور الدولة في الفضاء الإعلامي بمعنى نهاية قدرتها على التأثير والتلاعب بالرأي العام، وما تأثير كل ذلك في الثقافة العربية في ضوء، أولاً: الزيادة الهائلة في عدد القنوات الفضائية في المنطقة، والتي بلغت 1320 قناة في نهاية 2013 (العدد قابل للزيادة) وبالتالي زيادة الاعتماد على المضامين والبرامج الأجنبية لسد ساعات البث المتزايد. ثانياً: كثرة الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية وتنوعها مثل الـ «بي بي سي» والحرة وروسيا اليوم.
خلاصة القول إن الخطاب الإعلامي العربي يعكس كل توترات السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد وصراعاتها في الوطن العربي، لكن الإشكالية أنه مشدود دائماً ولدرجة التبعية للسياسة وللقيود التي تفرضها عليه الدولة وأصحاب المصالح وشركات الإعلانات، ولا ريب في أن هذه التبعية الفجة تؤثر بالسلب في مهنية الخطاب الإعلامي العربي وصدقيته، حيث كشفت التغطيات الإعلامية للغزو الأميركي العراق، ثم ثورات الربيع العربي عن تناقضات الخطاب الإعلامي العربي وتحولاته وزيف مقولاته وتقاليد عمله، والأهم فضحت حالة الاستقطاب والسجال التي عمقت من الانقسامات السياسية والثقافية في المجتمعات العربية.
لا بد إذاً من مراجعة شاملة لأداء الإعلام العربي وخطاباته، وعلاقته بالدولة وبمصادر تمويله في محاولة متأخرة لإنقاذه من الموت نتيجة التأثير المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد من ناحية، وانتشار القنوات الإعلامية الناطقة بالعربية من ناحية ثانية. وأتصور أن المراجعة المطلوبة هي مسؤولية النخب السياسية في الحكم والمعارضة والعاملين في الإعلام وممثلي المجتمع المدني، وأؤكد هنا أن المراجعة المطلوبة تهدف إلى دمقرطة الإعلام وليس استعادة هيمنة الدولة على الإعلام أو إحلال سلطة رأس المال مكان سلطة الدولة الاستبدادية، ولا شك في أننا لن نعيد اختراع العجلة من جديد، وإنما سننقل تقاليد المجتمعات الديموقراطية وتجاربها التي حافظت على درجات من استقلال الإعلام عن السياسة، استناداً إلى ضرورات التحول الديموقراطي والمعايير المهنية والأخلاقية للإعلام فضلاً عن شفافية التمويل ووجود منظمات للدفاع عن حقوق المواطنين الإعلامية.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق