بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

◘ «الجمهور» لكنغ فيدور: قبل أن يذوي الحلم أو ينفجر - براهيم العريس

في معرض تحليله للمناخ الاجتماعي الاميركي الذي يكمن خلف فيلم «الجمهور»، كتب الناقد الفرنسي الراحل كلود بيلي: «كانت الولايات المتحدة عرفت خلال سنوات العشرين، نهوضاً اقتصادياً، سيأتي انهيار وول ستريت في العام 1929 ليضع حداً له. ولكن قبل الانهيار، كان الزمن لا يزال زمن التفاؤل، وإن كانت معالم قسوة الحياة ظاهرة
للعيان»، ومن هنا، كانت هناك أفلام عدة أُنتجت في هوليوود، وجعلت من نفسها «صدى لذلك الازدهار المهدّد»: «متسولو الحياة» لويليام ويلمان، «في ظل بروكلين» لآلان دوان، «الصاعقة» لكلارينس بادجر وخصوصاً «الجمهور» لكينغ فيدور.

> وعلى هذا، قد يكون من المنطقي القول ان فيلم «الجمهور» لكينغ فيدور كان واحداً من أول وأهم الافلام التي غاصت في الواقع الاجتماعي مباشرة، ووقفت تتساءل عن الحلم الأميركي الذي كان لا يزال في ذلك الحين مزدهراً. والحقيقة ان ذلك التوجّه لم يكن جديداً في ذلك الحين على مخرج الفيلم وكاتبه كينغ فيدور، الذي حقق خلال سنوات سابقة فيلماً ضد الحرب بعنوان «العرض الكبير» لقي نجاحاً هائلاً، واعتبرته شركة «مترو غولدوين ماير» المنتجة واحداً من أكبر أفلامها وأكثرها اجتذاباً للجماهير. وهكذا، مسلحاً بالنجاح الذي حققه، قرر فيدور ان يدلي بدلوه في الموضوع الاجتماعي وأن يقول رأيه، بصرياً، هو الذي كان واحداً من أول الذين آمنوا بقوة الصورة، وخصوصاً بأهمية ان تكون للسينما خصوصيتها البصرية ولغتها المفصولة عن لغة الأدب. في ذلك الحين، 1928، كان عهد السينما الصامتة، في معنى ان كنغ فيدور كان يعرف مثل غيره من عشرات مبدعي السينما انه يفترض بالعنصر البصري في الفيلم ان يقول كل شيء، معبراً عن شتى المعاني من دون ان تكون ثمة حاجة فيه الى الحوار الذي كان غير ممكن، بعد، تقنياً مع علمنا ان ثمة مبدعين سينمائيين - على رأسهم تشارلي شابلن رفضوه مبدئياً لكن هذه حكاية أخرى -. أما بالنسبة الى كينغ فيدور، فقد أُتيح له، عبر هذا الفيلم أن يطبّق نظرياته، وحتى حدود التجريب، ذلك ان الشركة المنتجة وفرت له ما يريد، فكان أن حقق «الجمهور» عبر وسائل لم تكن، في ذلك الحين، تقليدية على الاطلاق، بل كانت تعتبر من «سمات السينما الاوروبية الفقيرة»: تصوير في الديكورات الطبيعية، كاميرا خفية تغطى لئلا تحدق فيها عيون السابلة، ممثلون لم يكونوا بعد محترفين وموضوع مستقى من الحياة الحقيقية مع اصرار على تقليل البعد الدرامي حتى الحدود الدنيا. ونعرف طبعاً ان هذه الوسائل ستكون هي نفسها التي يلجأ اليها لاحقاً رواد المدارس الطبيعية والواقعية، في «الواقعية الجديدة» الايطالية، كما في «السينما الحرة» البريطانية، و «الموجة الجديدة» الفرنسية، وصولاً الى كامل التلمساني وكمال سليم وصلاح ابو سيف في مصر. ومن هنا يعتبر كينغ فيدور، من جانب المنصفين، احد أبرز رواد الواقعية - الطبيعية في تاريخ السينما، وإن كان حقق في مسيرته المتعرجة أعمالاً تنفي عنه هذه الصفة، وأتت تقليدية تماماً.
> ما يهمنا هنا، طبعاً، هو «الجمهور»، ذلك الفيلم الرائد والبسيط، والسيئ الحظ كذلك. اذ إنه كان، في زمنه، من آخر الأفلام الصامتة، ما جعله يُنسى لفترة طويلة من الزمن، قبل ان يُعاد اكتشافه منذ أواسط سنوات السبعين من القرن العشرين، ويعاد اليه اعتباره، ويبدأ حسبانه في لائحة الأفلام العشرين الأهم في تاريخ الفن السابع.
> في اختصار شديد، يمكن ان نقول عن «الجمهور» انه فيلم همّه ان يقدم حياة زوجين أميركيين بسيطين. أما كينغ فيدور، فإنه يصف فيلمه على النحو الآتي: «الصورة الأولى في الفيلم ترينا مجموعة من أناس يخرجون من، أو يدخلون الى، بناية نيويوركية ضخمة. ثم تنتقل الكاميرا لترينا مجموعة كبيرة من النوافذ، لتظهر بعد ذلك ناطحة سحاب تستعرضها طولاً وعرضاً قبل ان تتوقف عند نافذة معينة، يمكننا ان نشاهد من خلالها مئات المكاتب والموظفين المنكبّين على عملهم. ثم تجمد الكاميرا أمام واحد من هؤلاء: إنه بطلنا الذي يقوم هنا بعمل رتيب. والحال ان حركة الكاميرا هذه تصور ما أردت التعبير عنه، هذا «البطل» إنما هو فرد من بين المجموع».
> وهذا «الفرد من بين المجموع» هو جون الذي سيفيدنا الفيلم بأنه ولد لعائلة فقيرة في ديترويت، ثم تيتّم وهو في الثانية عشرة من عمره، ليقرر ان يشق طريقه بقوة وسط هذا العالم العدائي. وهكذا ينتقل لاحقاً الى نيويورك حيث يعثر على عمل كمستخدم بسيط في مكتب... وتمر عليه السنون، حتى يلتقي ذات يوم في كوني آيلند بالحسناء - العادية مثله - ماري، ويقع الاثنان في الغرام ويتزوجان، ليمضيا شهر العسل - مثل معظم الاميركيين المنتمين الى طبقتهما - عند شلالات نياغارا. بعد ذلك يرزق الزوجان، السعيدان أول الأمر، بطفلين، في وقت كان فيه وضعهما الاجتماعي والمادي قد بدأ يتدهور. فجون، اذ يبدأ سأمه من حياته الرتيبة المنتظمة، يصاحب رفقة سوء، وتلي ذلك سلسلة من الكوارث الاجتماعية والشخصية: يفقد عمله في شكل مباغت، ثم تموت ابنته الصغيرة في حادث سير إذ تصدمها شاحنة... وتسوء العلاقة أكثر فأكثر مع زوجته. وهو حين يفقد كل أمل، يتأبط طفله الصغير الذي تبقّى له ويحاول الانتحار، لكنه يفشل في انتحاره، كما كان فشل في كل ما أقدم عليه من قبل. ويقرر، إثر هذا الفشل الجديد، أن يعود الى البيت. وفي طريقه الى هناك تحدث «المعجزة الصغيرة»: يجد عملاً. انه عمل تافه طبعاً، لكنه عمل والسلام: صار «رجلاً سندويتشاً»، اي من أولئك الذين يحملون لوحات دعائية يسيرون بها وهم يقرعون الأجراس. انه، في المقاييس الاجتماعية، أحقر عمل يمكن ان يمارسه انسان، ولكن لا بأس طالما انه يسمح لجون بأن يربح بعض الدولارات ويكتسب حب زوجته من جديد. ويتحقق له هذا لنراهما في النهاية يذهبان لحضور حفلة، ويضحكان للمرة الأولى بينما تبتعد الكاميرا لتجعل منهما «فردين عاديين وسط الجموع».
> رسالة هذا الفيلم واضحة. ولكن هل كان حقاً يحمل تلك الشحنة من التفاؤل التي أُلصقت به؟ من ناحية مبدئية أجل. ولكن الصورة تبدو مغايرة إن نحن تمعنا فيها. فالعمل الذي يجده جون يبدو تافهاً - كما أشرنا - وموقتاً ايضاً. ومن هنا، فإن السعادة التي يستعيدها موقتة ايضاً. وما حدث له سيحدث من جديد، وللجمهور كله، فأين هو الحلم الاميركي المنشود، في ذلك كله؟ الحال ان بعض الذين تنبهوا الى ذلك الالتباس، بين التفاؤل الظاهر والتشاؤم الحقيقي في الفيلم وآخذوا كينغ فيدور عليه، ستأتي الأحداث والانهيارات الاقتصادية التالية لتجعلهم يعيدون النظر في موقفهم واكتشاف كم كان المخرج محقاً في وضعه شخصياته على الحبل المشدود.
> حين حقق كينغ فيدور (1894-1982) «الجمهور» كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان حقق شهرة ومكانة في عالم الفن السابع الذي انتمى اليه باكراً، ومنذ كان شاباً في مسقط رأسه بلدة غالفستون في ولاية تكساس. فهو بدأ كعامل عرض وقاطع تذاكر في دور السينما قبل ان يتحول الى مصور يهتم بالأخبار السينمائية المصورة. وفي عام 1915 نراه يتوجه الى هوليوود حيث يحاول فرض نفسه ككاتب سيناريو، لكن كل السيناريوات التي يعرضها، اول الأمر، على الشركات تُرفض، حتى أُتيحت له فرصة، بالصدفة، في العام 1919، حيث حقق فيلمه الاول «منعطف الطريق» ولم يتوقف بعد ذلك، إذ ظل داخل المهنة، مخرجاً وكاتباً ومنتجاً حتى العام 1959 حين دفعه فشل فيلمه «ملكة سبأ» الى الاعتزال، وهو خلال مسيرته الطويلة حقق عشرات الأفلام، بعضها ناجح لا أكثر، وبعضها سيئ السمعة، لكن البعض الآخر يعتبر علامة في الفن السابع مثل «الجمهور» و «العرض الكبير» و «هللويا» (1929، وكان أول فيلم يمثله الزنوج) و «البطل» و «القلعة» و «خبزنا كفاف يومنا» (1934)، وبخاصة «صراع تحت الشمس»... والنسخة الاميركية من «الحرب والسلام» (1956).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق