بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 19 يناير 2015

◘ قارئة تدعى... «شهريار» - عبده وازن

إنهنّ «القارئات»، هكذا بتن يُسمّين، قارئات الروايات، تبصرهنّ يُقبلن على اجنحة الدور في معارض عربية للكتب، يبحثن عن اعمال روائية، عربية او عالمية مترجمة، ومنها خصوصاً روايات «البوكر» العربية بدءاً من اللوائح الطويلة فالقصيرة فالرواية الفائزة... أقول «القارئات» ولا اقصد النسوة والفتيات اللواتي تشغلهن القراءة في معناها الثقافي والعملي، وهنّ مثلهنّ مثل القراء عموماً، القراء الذين تمثّل القراءة احدى ركائز حياتهم المهنية واليومية وأحد طقوس عيشهم وإحدى عاداتهم. اقصد القارئات اللواتي بتن اليوم يؤلفن في عواصم ومدن عربية عدة، ظاهرة لافتة جداً، ظاهرة ينتبه اليها كثيراً ناشرو الكتب ولا سيما الروايات منها، في معارض الكتب العربية، ناهيك عن اصحاب المكتبات ومتابعي صفحات الـ «فايسبوك» الذين يرقبون عن كثب ردود هؤلاء النسوة والفتيات على روايات قرأنها. انهن «القارئات»، بحسب ما يسمّيهن الناشرون. يقصدن معارض الكتب بحثاً عن مؤونة لا يقعن عليها عادة الا في مثل هذه المعارض. يشترين ما تسمح لهنّ جيوبهنّ في شرائه، وبضع منهنّ، في الامارات مثلاً، بحسب ما تروي إحدى الناشرات، يملأن عربات هي نفسها عربات الشراء في «المولات» التجارية. هؤلاء النسوة لا يشترين هذا الدفق من الروايات ليزينّ بها الصالونات ويضعنها على الرفوف، بل ليقرأنها ويعقدن حولها لقاءات محصورة بهنّ عادة، وهي غالباً ما تكون اشبه ب»صبحيات» أو»امسيات» تتوزع بين البيوت، أو النوادي. وتروج الآن نوادي قراءة وجمعيات تشرف عليها نسوة هن كاتبات وقارئات وناشطات في حقول الثقافة والاعلام والسوسيولوجيا... وتقبل هذه النوادي والجمعيات على شراء الروايات وتوزيعها على «المنتسبات» بغية قراءتها ومناقشتها وعقد لقاءات مع اصحابها كتّاباً وكاتبات. وتقول إحدى الناشرات إن هذه النوادي رفعت ارقام مبيع الروايات وأضحت مورداً مهمّاً في هذا الحقل.
إنهن «القارئات»، هكذا بتن يُسمّين. نسوة محجبات او شبه محجبات، سافرات، صبايا ومتقدمات في السن، متزوجات وعازبات، تنتظرهن اجنحة الناشرين في معارض الكتب، وبعضهن أمسين على علاقة ود مع الناشرين، يتناقشن معهم ويأخذن برأيهم ويقترحن عليهم. مرةً عند جناح أحد الدور المعنية بنشر الروايات في معرض خليجي، شاهدت كيف تشتري سيدة كدسة كبيرة من الروايات، قد تتطلب قراءتها عامين او ثلاثة. كانت تولي اختيار الروايات كثير اعتناء، مدركةً تماماً ماذا تريد. إنها لا تشتري لتشتري كما يظن بعضهم، هي القارئة التي تدرك معنى ما يسمى «لذة» القراءة. هذه الروايات ستكون رفيقتها طوال سنة وأكثر، وخير جليساتها.
هذه الظاهرة، ظاهرة القراءة الجماعية والنوادي التي تحييها «القارئات»، تعمّ الأن مدناً عربية عدة. لكنها في بيروت مثلاً تختلف عنها في الشارقة وأبو ظبي او الدوحة... الاختلاف في أمزجة القارئات وطقوسهن. في بيروت مثلاًَ «صالونات» نسائية للروايات العربية وأخرى للروايات الفرنسية او الانكليزية، وهي تشبه رائداتها والمشرفات عليها، تُعقد غالباً في المقاهي او المطاعم حول فنجان قهوة او كأس. النوادي النسائية في مدن عربية أخرى لا تشبه «صالونات» بيروت، إنها أشد مثابرة وحضوراً وأثراً. القارئات هنا يجدن في القراءة ما يشبه الملاذ. انها طريقة في التعرف الى الذات والعالم، في اكتشاف الآخر، أياً يكن هذا الآخر. مثل هذه القراءة ليست ضرباً من الترف الثقافي بقدار ما هي حاجة وضرورة. انها اكسير المخيلة والوجدان، انها الهواء والماء، الضوء الذي يلوح من خلف الستائر. إنها المرآة التي يشاهدن وجوههن فيها وما خفي وراءها. لكنها ليست القراءة السرية بحسب الكاتبة الايرانية آذار نفيسي صاحبة «قراءة لوليتا في طهران»، «لوليتا» رواية نابوكوف التي كثيراً ما مُنعت عربياً. ولكن لا احد يعلم كم من مثيلات عربيات للإيرانية آذار نفيسي يقرأن بالسر ما يعجزن عن قراءته علانية.
انهن «القارئات»، نسوةً وفتيات. في ميدان القراءة لا يمكن ان يطغى التذكير على التأنيث. القراءة مهما تشابهت بين رجل وامرأة تظل على حال من الاختلاف، الباطن واللامحسوس. ليست العينان وحدهما تقرآن، بل الروح والجوارح ايضاً، الجسد والمخيلة، القلب والعقل واللاوعي... القراءة فعل يحدث ابعد مما يمكن تصوره. هذا ما عبّر عنه شعراء وروائيون ورسامون منذ عصور. والرسامون غالباً ما صوروا القراءة بصفتها فعلاً انثوياً: امرأة تستلقي على سرير او كنبة وبين يديها كتاب تقرأ فيه. نادراً ما رسم الفنانون رجالاً يقرأون. لعلهم وجدوا في قراءة المرأة حالاً من الشغف والهوى والجمال السحري المشبع رغبات ومشاعر مبهمة...
كانت شهرزاد تروي وكأنها كاتبة تكتب مطلقةً سراح مخيلتها وكان شهريار بمثابة القارئ الذي يستمع وكأنه يقرأ خاضعاً لسلطة مخيلة شهرزاد. ولكن لا بأس ان تصبح «القارئة» صنو شهريار ولكن بلا سيف ولا سطوة، تقرأ بعينيها وحواسها وروحها والمخيلة. اليست القراءة فعلاً ابداعياً يماثل الكتابة نفسها كما أشار رولان بارت؟
إنهن «القارئات»، إنها «القارئة» العربية التي تتخلى عن اسم «شهرزاد» لتدعى «شهريار»، شهريار المؤنث الخاضع لرغبة القراءة وهواها وشغفها الذي لا يُضاهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق