بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 31 يناير 2015

«موقعة المطرية» الدامية ووجود «داعش» في ضواحي القاهرة! محمد عبد الحكم دياب

حقق مبدأ مقايضة الثورة بالأمن فشلا ذريعا، وكان قبول الجمهور به مؤقتا واضطرارا، وكالعادة لم يع المسؤولون ذلك. وفهمت منظومة الحكم القبول المؤقت على وجه غير صحيح. فقد كان قبولا مشروطا بتحقيق أهداف ثورتي يناير ويونيو، وتصحيح علاقة المصريين بالدولة اعتمادا على دورها القديم، الذي تجدد مع بدايات القرن التاسع عشر، وتحتفظ الذاكرة الوطنية لها بدور رائد صاغته لنفسها بتجربتين كبيرتين هما تجربة محمد علي وتجربة جمال عبد الناصر؛ قادت فيهما التغيير والتحديث والتنمية، وبعد أكثر من أربعة عقود من بداية الانحطاط فيما بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بدت عاجزة عن استعادة نفسها مرة أخرى. والسبب هو نظرة غالبة على أصحاب القرار الذين ظنوا أن القبول أبدي وتسليم بأمر واقع. فمنحوا لأنفسهم رخصا بالتجاوز والاستمرار على النهج القديم. 
وأي مراقب موضوعي يلحظ أن روح الثورة ما زالت لها الغلبة على تفكير الناس وآمالهم، وبهذه الروح حدُّوا من مخطط «شيطنة» الثورة الذي ينفذه الطابور الخامس، وتحلوا باليقظة في مواجهة الثورة المضادة؛ بأموالها المنهوبة وإعلامها وحربها النفسية التي لا تتوقف ضد القابضين على جمر الثورة، وهذه الروح تمثل زادا يغذي التغيير النفسي الذي حرر المواطن من الخوف، فصار لا يقبل بظلم، ولا يسكت على ضيم، ولا يفرط في حق.
والدولة المصرية استمدت مكانتها من دورها في التحولات التاريخية، وتوافقها وانسجامها مع ميراثها الانساني والروحي العريق؛ فجعل منها خادما لشعبها، منذ أن أثبتت كفاءتها العالية قديما حين تحكمت في مجرى النيل وطوعته للخير والنماء، وتنظيم الزراعة، وإنتاج الحبوب والغذاء والمؤن وتخزينها في سنوات الرخاء والوفرة تحسبا لسنوات الجفاف والقحط، والتراجع الذي أصاب دورها ارتبط بوصول الهجمة الصهيو أمريكية؛ في ركب الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون حين زار مصر 1974؛ محملا بوعود المن والسلوى، سرعان ما انتهت بالخراب والفقر. ودور الدولة كما يتمناه المصريون لم يُسْترد حتى الآن. 
وهذا هو مدخلنا لقراءة سريعة للمشاهد الدامية في ذكرى ثورة يناير العظيمة؛ قد تكون مفتاحا يضع اليد على حال الدولة الراهن وطبيعة الأزمة التي تواجهها، فخلال الأيام الماضية وقعت تحت ضغوط ثلاثة: 
الأول.. ضغط مسلح «طائفي ومذهبي» ينفذه تنظيم دولي؛ مر بمراحل عدة؛ بدأها بالانتشار، مرورا بـ»المغالبة» وصولا إلى الحرب الفعلية، مع خبرة طويلة في الاغتيالات والتفجيرات؛ بدأت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وفي ستيناته انتقل للتكفير، وغلبت عليه «جهادية» ثمانيناته وتسعيناته، فظهر تنظيم «القاعدة»، وانتهى إلى «داعشية»؛ بدت حاضرة في “موقعة المطرية»، والتطور الأخير يمثل أعلى مراحل «الإرهاب»، وجاء على شكل «مروق مسلح»، ونقل «المغالبة» إلى «حرب وجود»، تقطع كل سبل التلاقي، وترفض كل قواعد التعايش والحياة المشتركة مع المخالفين في النهج والرأي والعقيدة، وترهن بقاءها بفناء الآخرين!!. 
و»حرب الوجود» هذه يتولاها تنظيم دولي مخضرم ومنتشر على اتساع العالم، وقادر على توفير التمويل والدعم والسلاح والمقاتلين، وتعَلَّم من «داعش» السعي لاقتطاع مساحة جغرافية تكون منطلقا له، وبدا في الأيام الأخيرة ممسكا بزمام المبادرة، وفاجأ الذين يتصرفون برد الفعل، ودخل الصراع الدموي مستوى جديدا؛ بدا غائبا عن أعين متخذي القرار في القاهرة، وهذه قراءة توصلت إليها بعد حوار مستفيض مع واحد من قادة الحركة الطلابية والشبابية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
ومع هول هذه القراءة يشعرك المواطن المصري بثقة زائدة في النفس وإمكانية النصر، ومن وجهة نظري أنها ثقة مهددة إذا ما اقتصرت المواجهة الأحادية على الأمن، واستمرار عزل المواطن بعيدا عن معادلة الحل، والتطلع دائما إلى الخارج لطلب العون في الحرب على الإرهاب وإنقاذ الاقتصاد، وهذا «الخارج» طرف في المواجهة بشكل مباشر وغير مباشر، وإهمال «الوحدة الوطنية» وتجاهل مطلب «العدالة الاجتماعية»، وعدم تهيئة البلاد لهذا النوع من الحروب؛ والاعتماد على الإمكانيات الذاتية، وإعداد المواطن وتطوير قدراته الدفاعية عن النفس إذا تعرض لخطر متوقع. ويجب أن تفكر الحكومة جديا في إعلان التعبئة العامة، وتحويل الاقتصاد إلى «اقتصاد حرب» وفتح المعسكرات لاستقبال الشباب وإعدادهم.
لقد اتسعت المواجهات والضربات المتلاحقة ضد مؤسسات الدولة ومرافقها؛ شملت أقسام شرطة، واغتيالات جنود وضباط أمن وقوات مسلحة، وأعمال قتل لا تفرق بين شاب وفتاة أو إمرأة ورجل أو طفل وكهل، وتدمير المرافق العامة، ونسف خطوط الكهرباء، وتفجير القطارات بركابها، وقطع الخطوط الحديدية، وإشعال النار في السيارات الخاصة وحافلات النقل الجماعي والعام، وتخريب المقرات الرسمية والإدارات الحكومية في طول مصر وعرضها. حتى محلات البقالة والمطاعم والمقاهي طالتها اليد «الداعشية».
الثاني: ضغط ثورة مضادة؛ نشطة ومتمكنة، وذات ثراء ونفوذ.. قادرة على الرشوة وتحريك جيش جرار من البلطجية، وتجد تدليلا من جهات محسوبة على الحكم، فحافظت على امتيازاتها ونفوذها وثرواتها المنهوبة، وعادت «تُدلع» نفسها بألقاب «البك والباشا وصاحب السعادة والمعالي والهانم وصاحبة العصمة»؛ استعلاء رخيص ومرض خبيث؛ يجب التصدي له واستئصاله، بجانب ما يجري للثورة من تشويه، واعتبارها مؤامرة أمريكية وصهيونية!!. 
والثورة المضادة ما زالت قادرة على إصدار قوانين الجباية من جيوب الفقراء وقوت الأطفال، ومنع الدعم عن مستحقيه، وزيادة أسعار الوقود والخدمات، وتستمر في «تسليع» الحقوق، فالعلاج لم يعد حقا إنما سلعة، بالإضافة إلى «تسليع» حقوق أخرى مثل التعليم والعمل، ووصل الأمر حد رفض استلام شركات ومصانع قطاع عام والضرب بأحكام القضاء الصادرة في شأنها عرض الحائط، والامتناع عن تأهيلها وإعادة تشغيلها، ثم تمضي في بيع ما تبقى منه، واستفزاز المواطنين بصفقة بيع شركة «بسكو مصر» بما يحيطها من شكوك وشبهات!! 
والثورة المضادة زادت الاحتقان، ووسعت نطاق الفوضى، وسوفت وتراخت في استعادة الثروات المنهوبة والأموال المهربة، فضلا عن عناد رسمي وتعنت واضح ضد الشباب، الذي تطلع إلى تنفيذ وعد الرئيس السيسي بالعفو عن المحبوسين في قضايا غير عنفية؛ فإذا بإطلاق سراح علاء وجمال نجلي الرئيس المخلوع الذي حصل على البراءة قبلهما، بكل ما تركه ذلك من إحباط عام!!.
الثالث: ضغط اختراق واضح لأجهزة الأمن، ولولا المعلومات الأمنية الدقيقة ما تمكن «الدواعش» من امتلاك زمام المبادرة، وما نراه من تخويف وترويع و“ضرب في المليان”؛ أشعر المواطن بعدم الأمان، ووقف أمام قرائن ساقها شهود عيان بشأن اغتيال الشهيدة شيماء الصباغ، ومنها ما يشير إلى أصابع بعض أفراد الشرطة في التنفيذ أو التواطؤ. ولم يكفهم الاغتيال الجسدي بل هناك من عمل على اغتيالها المعنوي، ووصفها بـ»الشيوعية»، وحتى لو كان ذلك صحيحا فإنه لا يبرر قتل برئ أو بريئة. وكل هذا يسحب من رصيد الدولة، الذي أخذ في التآكل من جديد. 
والاختراق لا يقوى عليه إلا متمكنون؛ خاصة في قطاعي «الأمن الوطني» والأمن الجنائي، ومنهم من عاد إلى سيرته الأولى في إهدار الكرامة والتعذيب، وعودة الدولة إلى صيغتها البوليسية خطيئة تفقد الحل الأمني جدواه، وتساوي بين العمل السلمي واقتراف الجرائم الإرهابية؛ ليستمر نزيف الدم دون نهاية معروفة، فروح الانتقام من الدولة واضحة في تعامل الجماعات «الداعشية»، وهذا أدى إلى تراجع شعبية الرئيس السيسي بين الشباب، بجانب أن شراسة وفجور الثورة المضادة زاد المشهد عبثية وفوضى ودما، فدفعت مصر الأسبوع الماضي ثمنا غاليا لذلك!!.
و”موقعة المطرية” بينت أن «داعش» قوة نوعية أضيفت إلى فلول الإخوان، ففي القاهرة من ناحية الشرق كانت منطقة «المطرية» مرتكزا لحشد المسلحين من الإخوان والداعشيين وحلفائهم، الوافدين من داخل البلاد وخارجها، وكانت بديلا لموقع «رابعة العدوية» الذي يبعد كيلومترات قليلة عن هذه المنطقة، وفي الجيزة هناك جهود لاتخاذ منطقة «الهرم وفيصل» كموقع آخر يحل محل «ميدان النهضة» المقابل لجامعة القاهرة ‪ وهما موقعان‬ شهدا اعتصامات 2013!!… وللحديث بقية.

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق