بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 6 يناير 2015

◘ التمرد على أوسلو من ياسر عرفات إلى محمود عباس - ماجد كيالي

عندما وجد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن عملية التسوية، وفق اتفاق أوسلو (1993)، كانت بالنسبة إلى إسرائيل مجرّد وسيلة لخنق كفاح الفلسطينيين، وإفراغ قضيتهم من أبعادها الوطنية والتحررية، ذهب نحو الانتفاضة الثانية، واحتضان المقاومة المسلحة، سعياً منه للمزاوجة بين المقاومة والتسوية، وبين الانتفاضة والمفاوضة. وكان أبو عمار في ذلك مهجوساً بمعنى فلسطين على الصعيدين العربي والإسلامي، ومسكوناً بمكانته الرمزية والتاريخية إزاء شعبه، وبموقع «فتح»، باعتبارها المسؤولة عن قيادة الشعب الفلسطيني وعن خياراته الوطنية، من إطلاق الكفاح المسلح (1965) إلى عقد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة.
الواقع أن هذا التحوّل، بصرف النظر عن تقويمنا له، وعن إمكاناته وجدواه وتداعياته، والذي تحدثنا عنه في مقالات كثيرة، انطوى على مشكلات عدّة منها أن العمل المسلح غلبت عليه ظاهرة العمليات التفجيرية، وعسكرة الانتفاضة، على حساب بعدها الشعبي. والمشكلة أن ذلك تزامن مع توقيت سياسي بالغ الخطورة، تمثل بالعمليات الإرهابية التي ضربت في نيويورك وواشنطن في أيلول (سبتمبر) 2001، الأمر الذي خدم إسرائيل في وصم مقاومة الفلسطينيين بالإرهاب. ويأتي ضمن هذه المشكلات عناد عرفات، واعتداده البالغ بذاته، وطريقته الخاصة في العمل، مع تعنّت إسرائيل، وسلبية إدارة بوش، وصعود دور «حماس» في المقاومة المسلحة، وكلها أوضاع أدت إلى فقدان عرفات السيطرة، وأضعفت قدرته على المناورة، وبقية القصة معروفة.
الآن، يقوم أبو مازن الذي خلف أبو عمار في قيادة الكيانات الرئيسية الثلاثة للفلسطينيين (المنظمة والسلطة و «فتح»)، بالدور ذاته، أي التمرّد على الإطار المرسوم للسلطة، بشنّ ما تمكن تسميته «المقاومة الديبلوماسية»، باستخدام المؤسسات الأممية، والقانون الدولي، في صراعه السياسي ضد إسرائيل، تعويضاً للفلسطينيين عن الخلل في موازين القوى، وهو ما بات يعتمده منذ ثلاثة أعوام.
طبعاً، لا أحد يطلب من أبو مازن أن يقوم بما قام به ياسر عرفات، فلا تاريخه ولا طبيعته يسمحان له بالقيام بذلك، إضافة إلى أنه بنى مكانته القيادية، ونجاحه الانتخابي، على صراحته في التخلي عن نهج الكفاح المسلح، وهذا كان موقفه قبل أوسلو وبعده.
وعدا عن الفارق في شخصية الرجلين وتجربتيهما، وافتراقهما في تعيين الخيارات الوطنية، فقد أكدت التجربة أن ثمة قواسم مشتركة أساسية بينهما، في طريقة العمل ونمط التفكير، مع التذكير بأن هذين الرجلين هما المسؤولان الأساسيان عن اتفاق أوسلو، بالمضامين التي وردت فيه، وبالمراهنات التي تأسّست عليه، علماً أنه من دون الشعبية التي كان يتمتّع بها عرفات ما كان يمكن تمرير مثل هذا الاتفاق على الإطلاق.
القصد من ذلك التنويه إلى أن القيادة الفلسطينية، من أبو عمار إلى أبو مازن، بنت منذ البداية انخراطها في عملية التسوية على مراهنات خاطئة، إلى حد استهانتهما بالنصوص المجحفة التي وردت في اتفاق أوسلو، الذي لم يعرّف إسرائيل كدولة محتلة، ولا الضفة الغربية وقطاع غزة كأراض فلسطينية، ولم يبت بمسألة الاستيطان، ولم يستند إلى مرجعية القرارات الدولية، واقترب كثيراً من الرؤية الإسرائيلية للصراع باختزال قضية فلسطين بقضية الأراضي المحتلة عام 1967.
وكان منطلق القيادة الفلسطينية وقتذاك هو التكيّف مع المناخات الدولية والإقليمية، الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية وسيادة الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم (مطلع التسعينيات). لكن هذا التكيّف كان زائداً عن الحد، كما بيّنا، ونجم عنه اختصار شعب فلسطين بفلسطينيي الضفة والقطاع، وتحول حركة التحرر الوطني إلى سلطة، وإنشاء علاقات تنسيق أمني مع المحتلين، وكلها أمور فعلت فعلها في ترهل بنى الحركة الوطنية الفلسطينية، وخبو روحها الكفاحية، وإثارة الشكوك بين الفلسطينيين حول معنى وجودهم كشعب.
يستنتج من ذلك أنه ما كان يفترض بناء التسوية على تنازلات مجانية، ومن دون مقابل، وبهذا الحجم، مهما كانت الظروف صعبة ومعقدة، وكان الأولى حينذاك تغيير الطريق، وابتداع طرق جديدة للكفاح، لا سيما أن لا شيء كان يوحي بأن إسرائيل يمكن أن تتنازل للفلسطينيين، في ظروف دولية وعربية مواتية لها.
وبكلام آخر، فربما كان من المتعذر على القيادة الفلسطينية، في ظروف مطلع التسعينات، معارضة الرياح الدولية المتعلقة بالتسوية، لكن كان بإمكانها مسايرة هذه الرياح بطرق أخرى، غير التي قامت على الارتهان للخارج، والانشغال بالسلطة وبالمفاوضات وبالبعد الدولي، على حساب بناء البيت الفلسطيني.
وقد كان الأجدى حينذاك، مثلاً، لو أن المنظمة تركت الإطار التفاوضي لوفد فلسطينيي الداخل، ولم تذهب إلى أوسلو، مع الإجحافات التي اضطرت للسكوت عنها لتعويم وضعها. وكان بالإمكان عدم الجمع بين قيادة المنظمة والسلطة و «فتح»، وهو الوضع الذي لم يفد السلطة وهمّش المنظمة، وذهب بريح «فتح» وبروحها. وفوق ذلك فقد كان الأجدى تحدي التسوية بطرح خيار الدولة الديموقراطية العلمانية الواحدة، كخيار يؤكد وحدة شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين، أو تحميل المسؤولية للأمم المتحدة، ولقراراتها، طالما أن الأمر على مستوى إنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967، وهذه كلها خيارات كفاحية، وليست للتفاوض، أو الاستهلاك، كما أن هذا الكلام ليس وليد اللحظة وإنما هذا ما كنا نقوله طوال عقدين.
وفي كل الأحوال، فقد كان يجدر بالقيادة الفلسطينية الإدراك مبكّراً أن عملية التسوية، في هذه الظروف والمعطيات، ووفق اتفاق أوسلو، لن توصل إلى شيء، حتى على مستوى دولة في الضفة وغزة، لا سيما أنها مرّت، طوال العقدين الماضيين، باختبارات عدة كان يفترض بكل واحد منها أن ينبه السلطة إلى عدم جدوى هذا الخيار. حدث ذلك في المرة الأولى مع انتهاء المرحلة الانتقالية (1999)، وفي الثانية مع إخفاق مفاوضات كامب ديفيد، الخاصة بقضايا الحل النهائي (2000)، وفي الثالثة مع تملّص إسرائيل من خطة «خريطة الطريق»، في شأن إقامة دولة فلسطينية (2002 - 2005)، وفي الرابعة مع تعثر مسار أنابوليس (2007) في شأن إقامة دولة فلسطينية أواخر عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. وفي الخامسة مع انتهاء مفاوضات التسعة أشهر (2013 - 2014).
معلوم أن القيادة الفلسطينية لم تشتغل على أساس هذا الإدراك، بل ظلّت تراهن على المفاوضات، وعلى موقف الولايات المتحدة، وهي رهانات ثبت أكثر من مرة أنها في غير محلها. الأهم أن هذه القيادة لم تشتغل على خيارات سياسية أخرى، بديلة أو موازية، ولم تعمل على تأهيل كياناتها السياسية الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية) التي باتت مستهلكة ومتآكلة، ومن دون أي فاعلية. فوق ذلك، فإن مسعاها لكسب ثقة إسرائيل والولايات المتحدة اقترن بكبح كل أشكال المقاومة، ومن ضمنها المقاومة الشعبية والسلمية، وحتى إنها لم تتعاط في الشكل المناسب مع المسار الدولي المتعلق بمقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها.
هكذا، فإن تحول أبو مازن نحو التمرد على مسار أوسلو، وانتهاج المقاومة الديبلوماسية، يعتوره الكثير من السلبيات، فهو لا يتأسس على رؤية سياسية قوامها القطع مع المعادلات التي قام عليها اتفاق أوسلو، ولا يستند إلى حالة من المقاومة الشعبية، أو حتى إلى حاضنة شعبية، فهو يبدو بمثابة انتفاضة من فوق فقط. وإلى هذا وذاك، فإن هذا الخيار وحده، على أهميته، لا يمكن أن يفضي إلى نتائج ملموسة، لأن إسرائيل أساساً لا تهمها قرارات الأمم المتحدة، ولا مجلس الأمن، ولا المؤسسات والهيئات المتفرعة منها، كونها تتمتع بتغطية الولايات المتحدة وحمايتها.
لذا، وبعد كل هذه التجارب، آن للفلسطينيين أن يحسموا خياراتهم، فلا أقل من وقف المسيرة التفاوضية وإعادة الملف إلى المنظمة الدولية، والوكالات التابعة لها، فليس لدى الفلسطينيين ما يقولونه، طالما أن الأمر على مستوى الصراع على الأرض المحتلة عام 1967، في هذه الظروف، حيث المطلوب تطبيق القرارات الأممية، وهي كافية. أيضاً لا أقل من وقف التنسيق الأمني فليست مهمة الفلسطينيين حماية الاحتلال والاستيطان، فهذا مجحف، فضلاً عن كونه مهيناً، لعدالة قضية فلسطين. ولا أقل من وضع حد للفساد الذي أكل من بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وأودى بها إلى هذه المهالك السياسية وأفقد كياناتها الفاعلية. وأخيراً، لا أقل من العودة إلى بناء البيت الفلسطيني على أسس وطنية وتمثيلية وديموقراطية ومؤسساتية.
على الدوام، لم تكن المشكلة عند الفلسطينيين في خياراتهم فحسب، وإنما في كيفية إدارتهم أحوالهم، وضمن ذلك تأخر وعيهم لأهمية بناء البيت الداخلي. هذا حصل في زمن أبو عمار وفي زمن أبو مازن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق