بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 20 يناير 2015

فتح» بعد خمسين عاماً من التضحيات... يا للهول! - ماجد كيالي

اعتادت الفصائل الفلسطينية إحياء ذكرى انطلاقاتها، في كل عام، بالمهرجانات الخطابية، والاستعراضات العسكرية، والمزايدات الكلامية، على رغم إخفاقها في خياراتها السياسية والعسكرية، وتآكل مكانتها، وتدهور أوضاعها، وانحسار دورها في مواجهة عدوها، وعلى رغم كل الكوارث والمخاطر التي تحيق بالفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم، من مخيم اليرموك إلى غزة مروراً بلبنان.
في مطلع هذا العام احتفت حركة «فتح» بمرور نصف قرن على انطلاقتها، التي أعلنت فيها (وللتذكير فقط) بداية نهوض الفلسطينيين كشعب، وتبني هدف تحرير فلسطين، وانتهاج طريق الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، وكلها التزامات لم تعد موجودة اليوم. والمعنى أن هذه كانت مناسبة للاحتفال بمجرد استمرار الحركة، بغضّ النظر عن أوضاعها، والتحوّلات التي حصلت عليها، بدلاً من أن تكون فرصة لمراجعة نقدية للتجارب من الأردن إلى لبنان ثم الضفة وغزة، وللخيارات من الكفاح المسلح والانتفاضة إلى التسوية والتفاوض، وللكيانات السياسية من المنظمة إلى السلطة، مروراً بالفصائل. هكذا، كان حريّاً بقيادة «فتح» طرح الأسئلة المناسبة، بخصوص أين كنا وأين أصبحنا؟ ولماذا لم تنجح حركة التحرر الفلسطينية في المهام التي أخذتها على عاتقها، طوال نصف قرن، ولم تستطع حتى الحفاظ على الإنجازات التي حققتها في مرحلة ما، على رغم أن الفلسطينيين لم يقصرّوا في بذل التضحيات واجتراح البطولات في ظروف صعبة ومعقدة؟
المشكلة أن «فتح»، وغيرها من الفصائل، لم تطرح هذه الأسئلة على نفسها في أي مرحلة، لأن المراجعة النقدية تؤدي إلى تحديد المسؤوليات، كما تفترض بداهة حالة سياسية تتأسّس على الديموقراطية والتداول والتمثيل، وهو ما تفتقده الحركات الفلسطينية، التي تشكلت طبقتها القيادية منذ نصف قرن تقريباً، والتي ما زال فيها قياديون على رأس فصائلهم طوال هذه المدة!
اللافت أيضاً أن حركة «فتح» لم تطرح هذه الأسئلة على نفسها حتى في سياق تحضيرها لمؤتمرها السابع، الذي كان يفترض عقده هذا الشهر، والذي تأجّل فجأة، علماً أنها لم تطرح وثائقها السياسية للنقاش العام، كأن المؤتمر مجرد مناسبة انتخابية، أو داخلية، علماً أن سياسات هذه الحركة لا تخصّها وحدها، كونها الحركة التي تحدد الخيارات السياسية للفلسطينيين، منذ نصف قرن، وتهيمن على المؤسسات الكيانية للشعب الفلسطيني (المنظمة والسلطة والاتحادات الشعبية).
مفهوم أن «فتح» لم تعد هي ذاتها، فهي كأي حركة سياسية تشيخ وتترهّل وتستهلك طاقتها، كما أنها تتعب وتصبح متقادمة، بأفكارها وصيغها التنظيمية وأشكال عملها، لا سيما أننا نتحدث عنها بعد تحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، ومن حركة تعمل في الخارج إلى حركة بات مركز ثقلها في الداخل، في إطار جزء من مجتمعها، ناهيك عن التغيرات الحاصلة في المجتمعات الفلسطينية، والتهديدات الخارجية التي أحاقت بالحركة الوطنية الفلسطينية، وحدّت من قدرتها على استثمار تضحيات الفلسطينيين ونضالاتهم، مميزين في ذلك بين العاملين الداخلي والخارجي.
أي أننا، ونحن نتحدث عن حركة «فتح» على هذا النحو، لا نقصد التقليل من قيمتها التاريخية والنضالية، ولا من الروح الكفاحية للمنضوين في إطارها، منذ انطلاقها في منتصف الستينات، وإنما نقصد تعيين المحصلة التاريخية لدور هذه الحركة، وفقاً للشكل الذي أديرت فيه من قبل قيادتها، أو الطبقة السياسية المتحكمة فيها، لأن كثيراً من الأمور توقّفت على القرارات التي اتخذتها، والخيارات التي انتهجتها، والطريقة التي أدارت بها أوضاعها الداخلية، أو صراعها ضد عدوها.
منذ خروج حركة «فتح» من لبنان عام 1982، وانتهاء العمل المسلح في الخارج، وبعد تحوّلها إلى سلطة في الضفة وغزة، في العقدين الماضيين، باتت «فتح» أقرب إلى جماعة غير واضحة المعالم من الناحية التنظيمية أو من ناحية الهوية السياسية، إذ لم تعد تلك الحركة التي ألهمت الروح الكفاحية عند الفلسطينيين، ووحّدتهم، وصاغت هويتهم الوطنية. فوق ذلك بدت هذه الحركة، التي كانت دائمة المبادرة، والتي أجادت التحايل على التناقضات العربية والإقليمية والدولية، رهينة خيارات أحادية، كما لم تعد قادرة على تجديد شبابها وحيويتها ورؤاها، بل إن مكانتها القيادية والتمثيلية في المجتمع الفلسطيني، آلت إلى انحسار، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات التشريعية التي أجريت عام 2006 في الضفة والقطاع، وأفضت إلى فوز حركة «حماس»، وصعودها إلى سدّة القيادة والسلطة، وبالتالي انقسام النظام السياسي الفلسطيني.
وكانت حركة «فتح» قد استطاعت، طوال خمسة عقود تقريباً، التحكّم بصياغة التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني، وطبعه بطابعها، فهي التي استنهضت هويته وعزّزت وحدته وشكّلت حركته السياسية وقادت كفاحه ضد إسرائيل، على رغم كل ما اعترض «فتح» من تحديات ومشكلات وضغوطات في الواقعين العربي والدولي، وعلى رغم تعقيدات الصراع ضد إسرائيل.
وما ينبغي تسجيله لهذه الحركة أنها أكثر حركة فلسطينية خسرت مؤسسيها وقيادييها، الذين سقطوا ضحايا عمليات اغتيال، فإلى ياسر عرفات الذي قضى عام 2004، بعد حصار دام قرابة ثلاثة أعوام، فقدت هذه الحركة كلاً من عبد الفتاح عيسى حمود (1969) وأبو علي إياد (1971) وأبو يوسف النجار وكمال عدوان (1972)، وماجد أبو شرار (1981) وسعد صايل (1984) وخليل الوزير (أبو جهاد) عام 1988، وصلاح خلف وهايل عبد الحميد (1991)، في حين قضى كل من أبو صبري وخالد الحسن نتيجة المرض، الأول في مطلع السبعينات والثاني في أواسط التسعينات.
وما ينبغي الانتباه إليه هنا أن طريق «فتح»، أي طريق الوطنية الفلسطينية، لم يكن سهلاً أو مفتوحاً في حينه، إذ إن المنطقة العربية كانت وقتها خاضعة في الأغلب لتيار القومية العربية، بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وضمنه «البعث» وحركة «القوميين العرب». كما كانت تعجّ بالتيارات الأيديولوجية اليسارية والشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي (السابق)، وأيضاً كانت هناك الحركات الإسلامية ذات النفوذ الواسع، ومع ذلك فإن هذه الحركة الوليدة، التي سبحت عكس التيارات السائدة، استطاعت أن تفرض وجودها.
هكذا يمكن قول أشياء كثيرة عن حركة «فتح» تحسب لها، ولكفاح مناضليها، وللحنكة السياسية التي تمتع بها قادتها الأوائل، وفي مقدمهم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. مع ذلك فإن الموضوعية تقتضي القول أيضاً، أن هذه الحركة التي أطلقت الكفاح المسلح، هي التي أنهت الكفاح المسلح، لصالح خيار التفاوض والتسوية، بتوقيعها اتفاق أوسلو (1993)، الناقض والجزئي والمجحف. وأن هذه الحركة التي عززت مكانة منظمة التحرير، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، وكيانهم المعنوي، هي التي همّشت هذه المنظمة وغيّبتها لصالح السلطة. وأن هذه الحركة التي بعثت الفلسطينيين شعباً، وصنعت هويتهم وكيانهم السياسي، هي التي أضعفت إدراكهم لكونهم شعباً، بذهابها نحو حل لجزء من الشعب على جزء من الأرض، والفجوة بين السلطة ومجتمعات اللاجئين.
على ذلك يجدر بقيادات «فتح»، وكل القيادات الفلسطينية، التساؤل عن الأسباب الداخلية لتعثّر الكفاح الفلسطيني بعد نصف قرن، وليس الأسباب الخارجية فحسب، في سياق إجراء مراجعة نقدية مسؤولة لكل التجارب والخيارات السابقة. كما يجدر بحركة «فتح» التوقف ملياً لمراجعة أين كانت وأين أصبحت، وطرح وثائقها للمؤتمر العام السابع للنقاش العام، وطرح خياراتها السياسية للاستفتاء، بل وتقديم وجوهها القيادية للاستفتاء الشعبي (كما اقترح مرة الزميل محمد يونس)، أو أقله للاستفتاء الفتحاوي، في الداخل والخارج، لاختيار الأفضل والأكفأ والأكثر نضالية، (على نحو ما تفعل الأحزاب الإسرائيلية فيما يسمى انتخابات «البرايمرز»).
خمسون عاماً من التضحيات والنضالات يا للهول! هذه سابقة لم يعرفها تاريخ الشعوب التي ناضلت من أجل التحرر الوطني، وهي مناسبة مشروعة لطرح أسئلة من نوع: ما هو مصير الفلسطينيين من دون الكفاح المسلح؟ وماذا لو بقيت «فتح» عند خيار الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية في فلسطين، بدلاً من خيار التسوية الجغرافية والجزئية؟ وهل كان يمكن أن يكون وضع حركة «فتح» والمنظمة أفضل من دون اتفاق أوسلو، أو أقله من دون التماهي بين كياني المنظمة والسلطة؟
أسئلة كثيرة ينبغي طرحها، لكن هل تفعل القيادات الفلسطينية ذلك؟ وهل هي مستعدة لمحاسبة نفسها أو تقديم كشف حساب لشعبها؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق