بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 يناير 2015

دفاعاً عن أسمى القيم - مصطفى فرحان

ما حدث في باريس يوم الأربعاء 7/1/2015 من عمل إجرامي بشع وما شاهدناه من سلوك بشري مؤطر ومنظم ذي طبيعة همجية وصادر عن عمى في البصيرة ووعي مستلب مغذى بخطاب وعظي ديني جهادي مقيت وعن كراهية في القلب وموت لكل عواطف الرحمة والشفقة، يدعو كل ضمير إنساني حر أن ينتفض بفكره وقلمه ولسانه. وذالك ليدين بكل قوة وحزم لا العملية الإرهابية وما تنطوي عليه من ثقافة العنف والحقد والاستبداد والإرعاب والإقصاء الدموي وحسب، بل ليخاصم كل ثقافة تعادي القيم الديموقراطية الحديثة، وفي مقدمها قيمة القيم، أي الحرية والحريات الفردية.
ومن بين المهمات الواجبة، والمنوطة بكل مؤمن بروح المواطنة وبكل من يمتلك في مجتمعات العالم العربي وعياً عميقاً ودقيقاً بأهمية هذه القيمة العليا والمكانة المركزية التي تحتلها الحرية في نسق القيم الحديثة الكونية، مهمة الدفاع القوي والواضح عن الحرية. والحرية هي هذا المبدأ الفلسفي الحديث وهذه القيمة الرمزية التي هي ثمرة من ثمرات كفاح العصر الحديث الفكري والسياسي الطويل والمرير وإنجاز تاريخي تحقق بفضل تضحيات عدة لعشاقها في أوروبا والمناوئين لمختلف مظاهر الاضطهاد وأشكاله.
وأوروبا هنا هي العالم الحديث الذي قررت نخبه النيرة القطع مع مرجعيات الماضي المعادية للقيم الحديثة، ومن ثم الانفتاح على نزعة إنسية لا سابق لها. نزعة تتجاوز النزعات الإنسية التي لم تجرؤ لا على الخروج من إطار التصورات الدينية ولا على الاستناد الى رؤية ثورية للذات وللعالم وللمجتمع وللدولة ومؤسساتها. نزعة تسعى إلى التحرر من نير الطغيان، بالعمل على استقلال الفكر والوعي والخطاب عن كل إملاءات اللاهوت ومؤسساته ووظائفه وعلى تحرير النظام السياسي من استبداد السلطان ونزعاته التسلطية والتغولية المعهودة.
وما ينبغي التنويه به في هذا السياق هو أن ما قد أصبح اليوم بديهية من بديهيات المواطن الأوروبي وتجسد في المؤسسات والسلوكيات، لم يقدم له كهبة من هبات السماء بل هو مكسب إنساني انتزع بفضل جهاد فكري وسياسي مستميت لأجيال آمنت بهذه القيمة الإنسانية العليا وحملتها في أعماقها كركن ركين من أركان وجودها الفردي والمجتمعي. وهنا يكفي التذكير بموقف فولتير الشهير الذي عبر عنه وبشجاعة واقتناع نادرين، في وقت لم تكن القيم الليبرالية، وخصوصاً قيمتا الحرية والتسامح قد أصبحت قيماً ثقافية ومجتمعية يتقاسمها المواطنون والأفراد تقاسماً لا جدال فيه، ومن ثم التنويه باستعداد المفكر الأنواري الانتصار لفكرة التسامح والتعددية والدفاع عن حرية التعبير، التي ينبغي وفق رؤيته الفلسفية أن تُكفل حتى للخصوم الذين لا يقاسمهم الرأي والمعتقد، بل استعداده للتضحية بحياته دفاعاً عن حرية التعبير للرأي المعاكس ووجهات النظر التي لا يتفق معها.
والسؤال الذي يثور في أذهاننا ونحن نذكر بهذه الحقيقة التاريخية، وبغض النظر عن الفتوحات الفكرية والسياسية الأخرى التي تتالت فيما بعد وأصبحت تشكل معالم كبرى في تاريخ الحداثة، هو: أين الحضارة الإسلامية العربية، على رغم كل ما حققته في لحظاتها الأولى الخصبة والغنية من إنجازات هائلة في حدود ما كانت تسمح به شروط ومعطيات المرحلة التاريخية التي تبلورت في إطارها، من هذه الفتوحات الأوروبية العظيمة التي تنطوي على ثورة ثقافية وأنثربولوجية غير مسبوقة ومتفردة في تاريخ الفكر والحضارات؟
لا شك في أن من يتابع ما ينتج في الخطاب العربي المعاصر ويتتبع بعين متبصرة وفكر مستند إلى معطيات ومقاييس مدونة في التاريخ المقارن للفكر والحضارات البشرية ما يتردد كثيراً في هذا الخطاب من تساؤلات نقدية، لا يسعه إلا أن يلاحظ غيابا هاما للأسئلة النقدية الجذرية التي تندرج في النسق الفكري الحديث. والسؤال الاستراتيجي الذي أثرناه واحد من هذه الأسئلة الغائبة أو اللامفكر فيها.
ويتعين علينا أن نستحضر هنا مثالاً وحيداً ضمن سلسلة طويلة من الأمثلة التي تبرهن على أن الثقافة العربية السائدة كخطابات وسلوكيات لم تجرؤ بعد على إدانة بعض المواقف ذات الروح الاستبدادية وعلى الإعلاء من قيمة الإنسان وضمان حرياته الكاملة: ماذا حدث إثر قتل الرسام الكاريكاتوري الجريء ناجي العلي في لندن، وهو ذو الرسومات المتفننة في السخرية المنطوية على روح نقدية والمتهكمة من شخصيات سياسية عربية، بل حتى فلسطينية، ومواقفها وسلوكياتها المتسمة بطابع لا ديموقراطي؟ وهل شاهدنا في العالم العربي غداة هذه الجريمة هذا النوع من الإجماع والتضامن الرائعين للشعب الفرنسي وتجند جميع فئاته للدفاع عن هذا الكنز الرمزي المقدس الذي أصبحت حمايته من أوجب واجبات المواطن الحر؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق